بقلم ذ. محمد منار
باحث في العلوم القانونية والاجتماعية – المغرب
لا شك أن المسؤولية الاجتماعية هي قلب ومحرك مفهوم المواطنة، ولا يمكن تصور وجود مواطنة حقيقية مكتملة شاملة ومستدامة بدون مسؤولية اجتماعية، وحينما نريد سبر أغوار موضوع المسؤولية الاجتماعية وربطه بأزمة تفشي فيروس “كورونا كوفيد 19″، فإننا نكون قد دخلنا فعلياً البحث في جوهر بنية ونسق المجتمع المتغير، ووضعنا الأصبع على موضع خطورة الأزمات المهددة لأمن المجتمع واستقراره، ذلك لأن بنية المجتمع تتمحور في سياق تطورها الاجتماعي وتنميتها الاقتصادية على فكر، واستثمار، وابتكار، ومشاركة كل شرائح المجتمع في التنمية والتطور، التي تشكل الغاية المستحيلة في مجتمعاتنا العربية.
لكن قبل الغوص في كنه هذا الموضوع كان لزاما أن نقف عند بعض الأساسيات العامة المتعلقة بهذه الجائحة، والتي نراها من الضروري وضعها صيب أعيننا كلما حاولنا التطرق لأي موضوع له علاقة بهذا الفيروس، ناهيك عن فهم السياق الذي جاء فيه من أجل محاولة ضبطه وتفسيره بشكل سليم.
فمنذ أن طلَّ علينا هذا الفيروس المسمى “كورونا كوفيد 19” في مطلع هذا العام، شكل أزمة عالمية غير مسبوقة، أرغمت جميع الدول على العزلة وإغلاق الحدود، واتخاذ تدابير احترازية تمنع استفحال هذا الفيروس ومحاولة القضاء عليه، وفي خضم هذه الأزمة تدفق دُمل من الآراء والمواقف المتضاربة حول طبيعة هذه الجائحة، تَضاربت الآراء من هنا وهناك ووصلت حدّ الهمز واللمز بالتصريحات المغرِضة بين القوى السياسية والاقتصادية وحتى المتبناة للمبادئ الايديولوجيا، الأمر الذي جعل شعوب العالم تنظر إلى حقيقة هذا الوباء بعين الشك والارتياب، بل هناك من اعتبره حربا بيولوجية بأسلحة كيماوية غير مرئية، تبتغي إعادة تمثيل مسلسل الحروب إلى هذا الوجود.
وقد صاحب ظهور هذا الفيروس نوع من الهلع والفزع، فمنا من نظر إليه كعقاب للبشرية جمعاء، وصل الظلم فيها عِنان السماء، ومنهم من رءاه حربا بيولوجية بين القوى العالمية في إطار ما يسمى بحروب الجيل السادس، ومنهم من رءاه علامة بقرب قيامة الساعة، وأن الأرض تتهيأُ لأمر سماوي لا قِبَل للناس به. وبين هذا وذاك تاه عقل الشعوب في تأويل خطابات الساسة، وتفسير سرعة انتشار الفيروس التي تطرح ألف سؤال.
وبعيدا عن الخطابات السياسية المشحونة بسعرات الصراع، والمبنية على أساس التناطح والتسابق على السيادة في محاولة لفرض الهيمنة بكل أشكالها، تتأسس بكل بساطة المسؤولية الاجتماعية والمبنية على نظرية أخلاقية قوامها أن لكل كيان في المجتمع دوراً يجب أن يقدمه لخدمة المجتمع، خصوصا في ظل هذه الجائحة، التي من اللازم أن تتكاثف الجهود وتتعاون كل المؤسسات والأفراد، من أجل ضمان الاستمرار وخلق جسر جديد يحكمه النضال من أجل البقاء، عازمين على طرد الفيروس والانتصار على أزمة على وشك أن تنشب بأظفارها على كل القطاعات، وهنا لابد من تحديد أساس ونطاق هذه المسؤولية، والتي يستوجب أن تكون متجهة لتحقيق غاية مفادها ضمان الاستقرار والاستمرار وفق الحاجة دون ترك مجال لتدهور الأفراد والقطاعات الحية التي تعود بمردودية مهمة على المجتمع.
وفي هذا المضمار، يتضح أن للمسؤولية الاجتماعية صفة إلزامية تقتضي أن يقوم كل فرد بالواجبات التي يتوقعها منه المجتمع في سلوكه لدور معين. وتناول الواجبات لا يتم إلا بالنظر إلى الحقوق، فكلاهما وجهان لعملة واحدة إذ يصعب مطالبة الفرد بواجبات دون منحه حقه الذي يعزز انتماءه، فالانتماء مسألة حيوية تعزز الارتباط الواعي بالمجتمع وأيديولوجيته، غير أن في ظل هذه الأزمة الخفية؛ لابد من الإقرار بأهمية التضامن والتعاون ومعرفة مدى فاعلية مواطنة كل واحد؛ أي أنها مرحلة للانتصار على الفردانية وإعادة الاعتبار للغير والتفكير في الجماعة، وبعبارة أخرى هي مرحلة للانتقال من محدودية “الأنا” إلى صرح “ال نحن”، من خلال تأكيد التآلف والتآزر. وفي هذا السياق أكد الفقيه Drucker أن المسؤولية المجتمعية هي التزام المنشأة تجاه المجتمع الذي تعمل فيه، وأنه من الواجب على المؤسسات الاقتصادية تحمل المسؤولية في تغطية حاجات جميع أفراد المجتمع قدر المستطاع خصوصا في الحالات الطارئة والأزمات الغير متوقعة، وهو نفس الرأي الذي تقاسمه معه الفقيد Holmos؛ الذي حث على نهج سياسة خاصة لضمان العيش الكريم لكافة شرائح المجتمع وذلك من خلال الامكانات المتاحة.
كما أن الفقيه الاقتصادي ADEM SMITH أقر بأن كافة منظمات الأعمال تسعى لتقديم أفضل الخدمات لعموم المجتمع وتحقيق أعلى مستوى ممكن من الأرباح وذلك بما ينسجم مع الأحكام القانونية والقواعد الأخلاقية السائدة. فالربح هنا أصبح هدفاً أحادياً تسعى إليه المنظمة، ولعل هذا يسري بالدرجة الأولى على أصحاب الشركات والطبقات الغنية أو الميسورة، التي من اللازم الوقوف إلى جانب الفئات الهشة والفقيرة، فهذه الأخيرة تكاد لا تستطيع مقاومة الأزمة والالتزام بالتدابير المتخذة من طرف الحكومات في جميع بلدان العالم، وذلك من خلال فرض الحجر الصحي وحظر التجوال، وتأكيد البقاء في البيت بغية الحد من تنقل الفيروس ومنعه من التجذر في الأسر، مع العلم أن غالبية المواطنين في جل دول العلم يندرجون ضمن خانة الطبقات الفقيرة أو المتوسطة، مما يحتم إعادة التفكير في توزيع الثروات، وتوفير الرعاية الاجتماعية لجميع الأفراد.
إن المسؤولية الاجتماعية في تدبير شأن هذه الأزمة يقتضي إيقاظ الإنسانية المكنونة فينا، من خلال الاتحاد والتعاضد، وتنسيق الجهود، وإيثار تقديم يد العون والمساعدة بكل ما لدينا من إمكانيات، ومن أجل إعادة إحياء الكرامة الإنسانية، واستشعار معاناة المنكوبين والمرضى والمعزولين. وهي فرصة لجمعيات المجتمع المدني أيضا لإبراز أهدافها على الواقع والوقوف إلى جانب السلطات الرسمية ومد يد العون للتحسيس بمخاطر هذا الفيروس من جهة، والعمل على ضمان المؤونة لبعض العائلات والأسر التي لا تستطيع الصمود في البيت دون مزاولة العمل، بحيث يرتبط قوت يومها بعمل اليوم نفسه.
كما أن هذه المسؤولية المجتمعية يتحملها كل واحد منا من موقعه، فلا ارتباط لها بصفة الشخص ولا العمل الذي يقوم به، بل إنها مسؤولية تناط بنا من أجل أخذها على محمل الجد وتوظيف مهارات وإمكانات كل واحد منا في مجاله، لتقديم المساعدة وتسهيل العيش عن بعد، وتقريب الخدمات وضمان التوصل بالضروريات اليومية لاستمرار الحياة. فالمواطنة الفاعلة هي نتاج تحمل المسؤولية الاجتماعية والانخراط الدائم في تطويق هذا الوباء والحد من انتشاره والمساعدة على إعادة الحياة إلى ما كانت عليه.
خلاصة للقول، نصل إلى أن لا فرق بين المسؤولية المجتمعية والمواطنة الفاعلة، فهناك علاقة طردية بين المسؤولية الاجتماعية والمواطنة، فكلما قل الإحساس بالمواطنة يقل الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية، مما يؤدى إلى الزيادة في عدم المشاركة في العمل المجتمعي، وكثرة الاحتجاج والتقصير في الدور المتوقع والتمرد على القانون في بعض الأحيان، وهذا نستشفه من خلال الحالات التي يتم توقيفها وضبطها تخرق الضوابط المتعلقة بحالة الطوارئ وهي غير واعية بهذه التدابير ولا تحس بالمسؤولية الملقاة على عاتقها. ومنه نخلص إلى أن المسؤولية المجتمعية تعد واحدة من دعائم الحياة المجتمعية الهامة، ووسيلة من وسائل تقدم وتطور المجتمعات، حيث تقاس قيمة الفرد في مجتمعه بمدى تحمله المسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين. بل وتقاس وطنيته بمدى احترام ضوابط دولته.