ذ. محمد القاسمي
كاتب وباحث في القانون الخاص
مدير مجلة الباحث وسلسلة الأبحاث
تكتسي الجريمة بمختلف صورها صبغة شاذة عن السلوك الإنساني السوي، ولردع هذا السلوك تدخل المشرع الوضعي بمجموعة من النصوص الزجرية التي تجرم بعض الأفعال ونص لها على عقاب وهذا حال المشرع المغربي الذي قام بإصدار مجموعة القانون الجنائي[1]، والذي نص بموجبه على أنواع مختلفة من الجرائم وبين أركانها الشرعية كما بين أركانها المادية والمعنوية، تم حدد مجموعة من العقوبات التي تلحق مرتكبيها.
فبمجرد ما نكون أمام فعل يعد في منظور القانون الجنائي جريمة، فيلجأ لإعمال القواعد المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية[2]، والتي تطبق لأجل التحري من وقوع الأفعال الإجرامية والبحث عن مرتكبيها لأجل متابعتهم والتحقيق معهم إلى غاية إصدار مقررات قضائية نهائية في حقهم وتنفيذها.
انطلاقا من التقديم المسطر أعلاه، نطرح السؤال الذي مفاده: إلى أي مدى نجح المشرع المغربي في وضع مجموعة من القواعد القانونية المتعلقة بإجراءات البحث والتحري عن الجرائم والمضمنة في قانون المسطرة الجنائية مع فلسفته المبينة في السياسة الجنائية؟
ولأجل الإجابة عن التساؤل المطروح سوف نعمد إلى إعمال تصميم ثنائي يأتي على الشاكلة المومأ إليها بعده، حيث نخصص المطلب الأول لإجراءات البحث والتحري سواء في الحالات العادية أو في حالات التلبس، فيما نتطرق في المطلب الثاني إلى تدابير الوضع تحت الحراسة النظرية وتفتيش المنازل في هذه المرحلة.
المطلب الأول: إجراءات البحث والتحري في الحالة العادية وحالة التلبس
سنقسم هذا المطلب إلى فقرتين، نخصص الأولى للبحث التمهيدي في الحالات العادية، فيما نخصص الفقرة الثانية للبحث التمهيدي في حالات التلبس بالجريمة.
الفقرة الأولى: البحث التمهيدي في الحالات العادية
البحث التمهيدي[3] في الحالة العادية هو مجموعة من الإجراءات والتحريات التي تقوم بها الشرطة القضائية بمختلف درجاتهم في غير حالات التلبس بالجريمة، والتي تأتي في المرحلة الأولى لاقترافها، حيث إن دورها – أي الشرطة القضائية – في هذه المرحلة يتأسس على البحث في معالم الجريمة وجمع الأدلة حولها والبحث عن مرتكبيها لأجل فك الغموض ورفع اللبس عن تفاصيلها.
وأعمال البحث التمهيدي في الحالات العادية التي تقوم بها الشرطة القضائية تتلخص وفقا لمنطوق المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية[4] في التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة حولها والبحث عن مرتكبيها وتقديمهم للعدالة.
والبحث التمهيدي الذي تقوم به الشرطة القضائية في الأحوال العادية تقوم به إما تلقائيا أو بناء على أمر من النيابة العامة، وهو ما يتضح جليا من خلال فحوى المادة 78 من قانون المسطرة الجنائية الذي جاء فيه:” يقوم ضباط الشرطة القضائية بأبحاث تمهيدية، بناء على تعليمات النيابة العامة أو تلقائيا.
يسير هذه العمليات وكيل الملك أو الوكيل العام للملك كل في ما يخصه”.
ويمكن تلخيص كل ذلك في ما يلي:
- تلقي الشكايات والوشايات: سواء من أشخاص معلومين أو مجهولين حول وقوع الجريمة، وكذا التحري عن بعض الأمور المرتبطة بها سواء بخصوص الأدلة التي تثبتها أو الأشخاص المرتكبين لها.
- استدعاء واستجواب المشتبه فيه: حيث يمكن لضابط الشرطة القضائية الاستماع إلى المشتبه فيه حول الجريمة التي يقوم بالبحث بخصوصها، ويتم استدعاءه عن طريق أحد أعوانه أو أعوان السلطة العمومية.
- الاستماع إلى الشهود: لضابط الشرطة القضائية أن يستمع لأي شخص تفيد أقواله في الكشف عن معالم الجريمة المرتكبة، مع الأخذ بعين الاعتبار الضمانات المخولة من قبل المشرع لهذه الفئة[5].
الفقرة الثانية: البحث التمهيدي في حالة التلبس:
التلبس وصف عيني يلحق بالفعل الجرمي المرتكب، ويقصد به الجريمة التي تضبط بعد اقترافها وفقا لحالات وظروف خاصة حددها المشرع حصرا في المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية، حيث نصت هذه المادة على ما يلي:” تتحقق حالة التلبس بجناية أو جنحة:
- إذا ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة أو على اثر ارتكابها.
- إذا كان الفاعل ما زال مطاردا بصياح الجمهور على اثر ارتكابها.
- إذا وجد الفاعل بعد مرور وقت قصير على ارتكاب الفعل حاملا أسلحة أو أشياء يستدل معها انه شارك في الفعل الإجرامي أو وجد عليه اثر أو علامات تثبت هذه المشاركة يعد بمثابة تلبس بجناية أو جنحة ارتكاب جريمة داخل المنزل في ظروف غير الظروف المنصوص عليها.
- إذا التمس مالك أو ساكن المنزل من النيابة العامة أو من ضابط الشرطة القضائية معاينتها، واعتمادا على النص السابق يمكن القول بأن صور أو أحوال التلبس بالجناية أو الجنحة قد وردت على سبيل الحصر بحيث لا يمكنه الزيادة فيها.”
انطلاقا من المادة المومأ إليها أعلاه، يتضح أن المشرع المغربي منح لضباط الشرطة القضائية صلاحيات واختصاصات واسعة وهامة إذا تعلق الأمر بحالة التلبس بالجريمة، وهذه الصلاحيات تتسم بنوع من الدقة والسرعة اللتين يتسم بهما البحث في حالة ما نكون أمام جريمة متلبس بها، والتي تستدعي الإسراع لمنع الجناة من الفرار وتوقيفهم وتقديمهم للعدالة، وهذه الصلاحيات تتمثل بتفصيل:
– الحضور الفوري لمسرح الجريمة: حيث بمجرد ما يتناهى لعلم الشرطة القضائية خبر وقوع جريمة متلبس بها، فتخرج على وجه السرعة القصوى من أجل التثبت منها والقيام بالمتعين بشأنها[6].
– توقيف الأشخاص المشتبه فيهم: ومنعهم من مغادرة مسرح الجريمة والتحقق من هوياتهم: حيث يجوز لضابط الشرطة القضائية أن يمنع كل شخص من مغادرة مكان وقوع الجريمة إلى أن يكمل أبحاثه وتحرياته معه وذلك بعد التثبت من هويته.
– حجز الأشياء التي لها علاقة بالجريمة المرتكبة: أجاز المشرع في المادة 59 من قانون المسطرة الجنائية لضابط الشرطة القضائية إمكانية حجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة، وكذا حجز الأوراق والوثائق أو الأشياء الأخرى المستعملة.
– إجراءات المعاينات الضرورية: حيث إن المادة 64 من قانون المسطرة الجنائية تخول لضابط الشرطة القضائية إذا اقتضى الأمر القيام بالمعاينات الضرورية بواسطة أهل الخبرة، حيث جاء فيها ما يلي:” إذا تعين القيام بمعاينات لا تقبل التأخير، فلضابط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص مؤهل لذلك، على أن يعطي رأيه بما يمليه عليه شرفه وضميره”.
لقد خول المشرع المغربي للضباط السامون للشرطة القضائية[7] أن يقوموا بأعمال البحث والتحري في حالة التلبس، ولهم الأولوية على ضباط الشرطة القضائية العاديين متى حضروا إلى مسرح الجريمة[8] وهذا راجع لكون إجراءات البحث والتحري في حالة التلبس ذات طابع تحقيقي والسلطة القضائية هي المؤهلة للتثبت والتحقق منها، وهذا الإجراء يتطلب شرطين:
الشرط الأول: وهو أن تكون الواقعة المطلوب معاينتها لا تقبل التأخير نظرا لطبيعتها، حيث أن أي تأخير في إجراء المعاينة قد يؤدي إلى اندثار الأدلة التي تساعد في الكشف عن الحقيقة.
الشرط الثاني: يقتصر عمل الخبير عند انتدابه على إبداء رأيه الفني المستخلص من مشاهدة للواقعة المعروضة أمامه.
المطلب الثاني: الوضع تحت الحراسة النظرية وتفتيش المنازل كإجراءين من إجراءات البحث والتحري
سنقسم هذا المطلب لفقرتين، نخصص الفقرة الأولى لتدبير الوضع تحت الحراسة النظرية، فيما نخصص الفقرة الثانية للنظام القانوني لتفتيش المنازل في مرحلة البحث التمهيدي.
الفقرة الأولى: الوضع تحت تدابير الحراسة النظرية:
لم يعرف المشرع المغربي في قانون المسطرة الجنائية تدبير الحراسة النظرية، وفي هذا المقام نجتهد ونعطي تعريفا لها كونها:” توقيف الشخص المشتبه فيه وإبقائه رهن إشارة ضابط الشرطة القضائية في مركز عمله خلال مدة محددة قانونا، والتي تختلف باختلاف نوع الجريمة المرتكبة، لهدف تحقيق مساعي عدة منها استتباب الاستقرار داخل المجتمع الذي وقعت فيه الجريمة، وكذا حماية الجاني من أي انتقام، بالإضافة إلى حسن سير إجراءات العدالة الجنائية حيث إن بقاء الجاني رهن إشارة الشرطة القضائية يسهل عملها في البحث في تفاصيل الجريمة المرتكبة”.
وسلطة الوضع تحت تدبير الحراسة النظرية يملكها ضباط الشرطة القضائية سواء كان المشتبه فيه قد تم توقيفه في حالة تلبس أم في الأحوال الأخرى العادية.
فالوضع تحت تدبير الحراسة النظرية مرتبط أساسا بالحرية الشخصية للأفراد، وهو مشروط أساسا بأن تتطلبه حاجيات البحث والتحري وهذا ما أكدته المادة 66 قانون المسطرة الجنائية التي جاء في مضمونها أنه إذا تطلبت ضرورة البحث أن يحتفظ ضابط الشرطة القضائية بشخص أو عدة أشخاص ممن أشير إليهم في المادة 65 ليكونوا رهن إشارته، فله أن يضعهم تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة تحسب ابتداء من ساعة توقيفهم وتشعر النيابة العامة بذلك، ويمكن بإذن كتابي من النيابة العامة لضرورة البحث تمديد مدة الحراسة النظرية لمرة واحدة 24 ساعة، وإذا تعلق الأمر بجريمة تهدف إلى المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي فإن مدة الحراسة النظرية تكون 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة ولنفس المدة بناء على إذن كتابي من النيابة العامة، أما إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية فإن مدة الحراسة النظرية تكون 96 ساعة قابلة للتمديد مرتين لمدة 96 ساعة في كل مرة بناء على إذن كتابي من النيابة العامة.
وبما أن الوضع تحت الحراسة النظرية مشروط بأن تتطلبه ضرورات وحاجيات البحث، وذلك للحد من الخطورة الإجرامية للشخص الموقوف والحيلولة دون فراره، لأن في الاحتفاظ به بين أيدي الشرطة القضائية مجموعة من الأمور الايجابية التي تعود على البحث والتحري وتعود على الجاني نفسه وعلى المجتمع ككل.
ونظرا لمساس تدبير الوضع تحت الحراسة النظرية بحريات الأفراد، فقد أحاطه المشرع المغربي بمجموعة من الضمانات تخول للشخص الموضوع رهنها ومنها:
- يتعين على كل ضابط للشرطة القضائية طبقا للمادة 67 من قانون المسطرة الجنائية[9] أن يبين ويضمن في محضر استجواب كل شخص موضوع تحت الحراسة النظرية يوم وساعة ضبطه، ويوم وساعة إطلاق سراحه، أو تقديمه أمام الجهة القضائية المختصة، وتذيل هذه البيانات إما بتوقيع الشخص المعني بالأمر أو بابصامه أو بالإشارة إلى رفضه ذلك أو استحالته، مع بيان أسباب الرفض أو الاستحالة، كما يقوم ضابط الشرطة القضائية بإشعار عائلة المحتجز فور وضعه تحت تدابير الحراسة بأي وسيلة من الوسائل ويشير بذلك بالمحضر.
- عدم جواز تمديد مدة الوضع تحت الحراسة النظرية خارج الساعات المبينة قانونا: لقد ميز المشرع في ما يخص مدد الوضع تحت الحراسة النظرية بين الجرائم العادية وبين تلك المتعلقة بالمس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي وجرائم الإرهاب، ففي حالة التلبس بالجريمة حددت المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية مدة الحراسة النظرية في 48 ساعة لا يمكن لضابط الشرطة القضائية أن يتجاوزها، وتحسب ابتداء من ساعة توقيف الشخص على أن تشعر النيابة العام بذلك، ويمكن بإذن كتابي من النيابة العامة لضرورة البحث تمديد مدة الحراسة النظرية لمرة واحدة ولمدة أربعا وعشرين ساعة، أما عندما يتعلق الأمر بجرائم المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي فإن المشرع حدد مدة الحراسة النظرية في 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة فقط بناء على إذن تقرره النيابة العامة، وبموجب القانون 03.03 المتعلق بمكافحة جرائم الإرهاب أضيفت فقرة رابعة إلى المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية وحددت مدة الحراسة النظرية إذا تعلق البحث في جريمة من الجرائم الإرهابية في 96 ساعة، وهي مدة قابلة للتمديد مرتين فقط ولنفس المدة بناء على إذن كتابي من النيابة العامة.
أما في الحالة العادية فإن مدة الحراسة النظرية هي نفسها المطبقة في حالة التلبس مع بعض الاختلاف المتعلق بضرورة حصول الضابط على إذن من النيابة العامة ليقوم بهذا الإجراء، وكذا ضرورة تقديم الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية إلى ممثل النيابة العامة عند تمديد مدة الوضع الأول.
وبهذا فإن تعلق الأمر بجناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس، وكانت ضرورة البحث التمهيدي تقتضي من ضابط الشرطة القضائية إبقاء شخص رهن إشارته[10]، فله أن يضعه تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة بإذن من النيابة العامة ويتعين لزوما تقديمه إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك قبل انتهاء هذه المدة.
أما من حيث تمديد هذه المدة، فإنه يمكن لوكيل الملك أو الوكيل العام للملك بعد الاستماع إلى الشخص الذي قدم إليه أن يمنح إذنا مكتوبا بتمديد الحراسة النظرية مرة واحدة لمدة 24 ساعة، وعندما يتعلق الأمر بجرائم المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي فإن مدة الوضع تحت الحراسة النظرية تحددت في 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة لنفس المدة بإذن كتابي من النيابة العامة.
- الاتصال بمحام أثناء الحراسة النظرية: أعطى قانون المسطرة الجنائية للشخص الموضوع رهن الحراسة النظرية إمكانية اتصاله بمحام عند تمديدها سواء في حالة التلبس أو في الحالة العادية، وبهذا فإن اتصال الشخص بمحام مشروط بتمديد مدة الحراسة النظرية، وعليه يكون هذا الاتصال غير مسموح به قانونا في الفترة العادية لمدة هذه الحراسة، واتصال الشخص بمحام يتم بناء على طلب منه يوجه إلى ضابط الشرطة القضائية، وفي المقابل يحق كذلك للمحامي المنتصب لمؤازرة هذا الشخص الاتصال به، كما أنه يمكن أن يتم الاتصال بترخيص من النيابة العامة لذا يتعين على ضابط الشرطة القضائية توجيه هذا الطلب لوكيل الملك أو لوكيل العام للملك، واستثناءا وهي حالة تعذر الحصول على ترخيص النيابة العامة بسبب بعد المسافة خاصة. فإن ضابط الشرطة القضائية يأذن للمحامي بالاتصال بالشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية، على أن يرفع فورا تقريرا في هذا الشأن للنيابة العامة[11].
وبهذا يبتدئ اتصال الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية بمحام من الساعة الأولى من فترة تمديد الحراسة وذلك لمدة محددة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة[12].
وقد فرض المشرع على المحامي المؤذون له الاتصال بالموضوع رهن الحراسة النظرية الالتزام بكتمان واحترام سرية البحث التمهيدي، بحيث يمنع عليه إخبار أيا كان بما راج خلال الاتصال بمؤازره قبل انقضاء مدة الحراسة النظرية، وبهذا الخصوص يمكنه للممثل النيابة العامة تأخير اتصال المحامي بمؤازره وذلك بناء على طلب من ضابط الشرطة القضائية، إذا اقتضت ذلك ضرورة البحث كما لو تعلق الأمر بجريمة إرهابية[13] أو بالجرائم المشار إليها في المادة 108[14] قانون المسطرة الجنائية، على أن لا يتجاوز ذلك التأخير مدة 48 ساعة تبتدئ من التمديد الأول، وفي مقابل ذلك يمكن للمحامي المرخص له بالاتصال بالشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية أن يقدم أثناء تمديد هذه الحراسة وثائق أو ملاحظات كتابية للشرطة القضائية أو للنيابة العامة قصد إضافتها للمحضر[15].
- الإخلال بأحكام الوضع تحت الحراسة النظرية والجزاء المترتب عليه: لم ينص المشرع في المادتين 66و 80 من قانون المسطرة الجنائية على جزاء الإخلال وعدم احترام شروط ومدد الوضع تحت الحراسة النظرية، كما أنه لم يرتب على الإخلال بها البطلان بصريح النص، خلافا للمادة 63 قانون المسطرة الجنائية المتعلق بالتفتيش والتي تقرر ضرورة احترام الإجراءات المنصوص عليها في الفصول 59-60-62 من قانون المسطرة الجنائية تحت طائلة البطلان الإجراءات المعيبة وما قد يترتب عليه من إجراءات لاحقة[16].
وفي هذا الإطار يرى الدكتور أحمد الخمليشي بأن تجاوز فترة الوضع تحت الحراسة النظرية يؤدي بدوره إلى بطلان محضر البحث التمهيدي المنجز، سواء كان التجاوز صادرا من ضباط الشرطة أو بناء على تمديد غير قانوني.
الفقرة الثانية : النظام القانوني لتفتيش المنازل في مرحلة البحث التمهيدي
تنص الفقرة الثانية من الفصل 24 من الدستور المغربي[17]:” لا تنتهك حرمة المنزل، ولا يمكن القيام بأي تفتيش ولا تحقيق إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون”
وبهذا فقد أعطى المشرع الدستوري للمسكن حرمة لا يمكن الاستهتار بها، ولكن ومع ذلك، فقد يكون المسكن مأوى وملاذ لبعض الجناة ومسرحا أيضا للجريمة يأوي بين جدرانه معالمها وأدلة إثباتها، فكان لابد من تمكين المكلفين بالبحث أو التحقيق من الوصول إلى تسجيل تلك المعالم والاطلاع على هذه الأدلة وضبطها.
وعلى هذا الأساس فقد نظم المشرع تفتيش المنازل بشكل يوفق بين حرمته القانونية وبين ضرورات البحث والتحقيق في الجرائم، وميز بصورة واضحة في تفتيش المنازل بين حالة التلبس وبين الحالة العادية، وفرض على ضباط الشرطة القضائية عند القيام بالتفتيش عدة شروط وشكليات إذا لم تراعى كان الجزاء هو البطلان بالإضافة للمسؤولية التأديبية والمسؤولية الجنائية.
فبخصوص شروط وشكليات تفتيش المنازل فقد نظمتها المواد من 59 إلى 63 من قانون المسطرة الجنائية، والتي تبين شروط هذا التفتيش وتوقيته والجزاء المترتب عن عدم احترام هذه المقتضيات.
ومما نلاحظه على التفتيش كإجراء مسطري لا يمكن إجراءه إلا في الجنايات والجنح، وعليه فلا يمكن القيام به في المخالفات، كما لا يمكن القيام به إلا من طرف ضباط الشرطة القضائية، ما لم يتعلق الأمر بمكتب محامي حيث يقوم به قاضي من قضاة النيابة العامة بحضور نقيب هيئة المحامين التي ينتمي لها المحامي الذي سيجري التفتيش في مكتبه.
وطبقا لأحكام المادة 59 من قانون المسطرة الجنائية فإنه إذا كان نوع الجريمة جناية أو جنحة مما يمكن إثباتها بحجز أوراق ووثائق أو أشياء تتعلق بالأفعال الإجرامية، فإنه يتعين على ضابط الشرطة القضائية أن ينتقل فورا إلى منزل هؤلاء الأشخاص ليجري فيه تفتيشا ويحرر محضرا بشأنه.
وفيما عدا حالات المس بأمن الدولة أو إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية، فإنه لا يحق إلا لضباط الشرطة القضائية ومعه الأشخاص المشار إليهم في المادة 60 من قانون المسطرة الجنائية وحدهم الاطلاع على الأوراق أو المستندات قبل القيام بحجزها، وعند إجراء التفتيش فإنه تحصى الأشياء والوثائق المحجوزة فورا وتلف وتوضع في غلاف أو وعاء أو كيس ويختم عليها ضابط الشرطة القضائية، وإذا استحال ذلك فإن ضابط الشرطة القضائية يختم عليها بطابعه.
وتتم كل هذه الإجراءات بحضور الأشخاص الذين حضروا التفتيش ثم يحرر ضابط الشرطة القضائية محضرا بما قام به من عمليات.
وإذا كان التفتيش سيتم في أماكن توجد بها نساء فعلى الضابط القائم بالتفتيش انتداب امرأة لتقوم به وذلك مراعاة لحرمة النساء ما لم يكن هو امرأة، وتوقع محاضر العمليات من طرف الأشخاص الذين تم التفتيش بمنازلهم، أو من يمثلهم أو الشاهدين اللذين حضرا التفتيش أو تتم الإشارة في المحضر إلى امتناعهم عن التوقيع أو الابصام أو تعذره.
كما أن المادة 79 من قانون المسطرة الجنائية والخاصة بالبحث التمهيدي في الأحوال العادية، ألزمت الضابط بعدم الدخول إلى المنازل والقيام بتفتيشها، وحجز ما بها من أدوات الاقتناع دون موافقة صريحة من الشخص الذي ستجري هذه العمليات بمنزله. وقد اشترط المشرع بأن تكون هذه الموافقة مكتوبة بخط اليد وذلك ضمانا لصدور الرضا عن طواعية واختيار، أما إذا كان صاحب هذا المنزل لا يحسن الكتابة فإن ضابط الشرطة يشير إلى ذلك في المحضر مع الإشارة كذلك إلى الموافقة على التفتيش.
أما بخصوص الوقت المحدد لإجراء تفتيش المنازل فقد حدده المشرع من من خلال مقتضيات المادة 62 من قانون المسطرة الجنائية التي توضح لنا على أنه لا يمكن الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها قبل الساعة السادسة صباحا، وبعد الساعة التاسعة ليلا، إلا إذا طلب ذلك رب المنزل أو وجهت استغاثة من داخله، أو في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون.
غير أن العمليات التي ابتدأت في ساعة قانونية يمكن مواصلتها دون توقف، إلا أن هذه المقتضيات لا يتم تطبيقها إذا تعين إجراء التفتيش في محلات يمارس فيها عمل أو نشاط ليلي بصفة اعتيادية.
وبموجب المادة 4 من القانون رقم 03.03 المتعلق بجرائم الإرهاب فقد تمت إضافة فقرة ثانية إلى المادة 62 من قانون المسطرة الجنائية والتي يستفاد من مضمونها أنه إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية واقتضت ذلك ضرورة البحث أو حالة الاستعجال القصوى أو إذا كان يخشى اندثار الأدلة فإنه يمكن الشروع صباحا أو بعد الساعة التاسعة ليلا في تفتيش المنازل أو معاينتها بصفة استثنائية، وذلك بإذن كتابي من النيابة العامة.
وبما أن الوقت القانوني الذي يجب أن يتم خلاله تفتيش المنازل يكون محددا قانونا، فإنه لا يمكن الشروع فيه قبل الساعة السادسة صباحا وبعد التاسعة ليلا إلا إذا طلب ذلك صاحب المنزل حسب ما نصت عليه المادة 62 من قانون المسطرة الجنائية.
أما بخصوص جزاء الإخلال بالأحكام القانونية لتفتيش المنازل، فإنه ونظرا لأهمية وخطورة هذا النوع من التفتيش، فقد تعرض القانون صراحة لجزاء الإخلال بالمقتضيات المطلوب مراعاتها عند القيام بهذا الإجراء، وهكذا فقد نصت المادة 63 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:” يعمل بالإجراءات المقررة في المواد 59و60و62 أعلاه تحت طائلة بطلان الإجراء المعيب، وما قد يترتب عنه من إجراءات”.
وعليه فالمادة 63 من نفس القانون قررت صراحة بطلان الإجراء المعيب والإجراءات التي تترتب عنه، وبهذا فإذا تقرر بطلان محضر التفتيش والحجز لخرقه الإجراءات المسطرية فإنه لا يؤدي إلى بطلان محضر البحث التمهيدي المتضمن لتصريحات الضنين وباقي الإجراءات الأخرى السليمة التي يمكن للمحكمة الأخذ بها، بل يسري البطلان على محضر التفتيش وما قد ينتج عنه من إجراءات أخرى وكذا ما قد تتحصل منه من أدلة للإقناع.
خاتمة:
انطلاق من كل ما تقدم ذكره، يتضح أن المشرع من خلال النصوص المنظمة لإجراءات البحث والتحري عن الجرائم والتي أدرجها في قانون المسطرة الجنائية، حاول جاهدا التوفيق بين مصلحتين مهمتين ومتضاربتان، وهما حق الدولة في توقيع الجزاء على الجناة وكذا حق هؤلاء في الاستفادة من كل الضمانات التي تؤدي حتما إلى محاكمة عادلة تستجيب لكافة الشروط الواردة في القوانين الوطنية والمكرسة في المواثيق الدولية.
فخلال مرحلة البحث التمهيدي بشقيه العادي والتلبسي، منح المشرع للشرطة القضائية بمختلف درجاتها مجموعة من الصلاحيات والسلطات لكي يكون دورهم في هذه المرحلة فعالا باعتبار مرحلة البحث التمهيدي بوابة وقنطرة عبور إلى الدعوى العمومية.
فيمكن للشرطة القضائية خلال مرحلة البحث والتحري عن الجرائم بعد توصلهم بشكاية أو وشاية أو إخبارية أن يقوموا بالانتقال لمسرح الجريمة، ويباشروا توقيف الجناة ومنعهم من الفرار وجمع الأدلة حول الجريمة، وتحرير محاضر توثق كل ذلك، كما يمكنهم وضع الأشخاص الموقوفين رهن تدابير الحراسة النظرية إذا توفرت شروطها، مع ضرورة احترام مددها وإجراءات تمديدها، كما يمكنهم كذلك تفتيش المنازل وحجز ما بها من وسائل للإقناع، وذلك في الساعات المسموح بها قانونا، ويؤدي أي خرق لإجراء من إجراءات التفتيش إلى بطلان محضر هذا الأخير وما قد ينتج عنه من إجراءات أخرى.
انتهى بتوفيق من رب العلى
[1]– ظهير شريف رقم 1.59.413 صادر في 28 جمادى الثانية 1382 (26 نونبر 1962) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي كما تم تعديله وتتميمه بعده بعدة قوانين.
[2] – ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من رجب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423 (30 يناير2003)، ص: 315.
[3] – لم يقدم المشرع المغربي تعريفا للبحث التمهيدي، في حين عرفه بعض الفقه الجنائي ومنهم الأستاذ أحمد الخمليشي بأنه:” مرحلة التثبت من وقوع الجريمة وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها، وهي المرحلة التي تسبق المحاكمة”
– دة. مجيدي السعدية ود. أحمد قيلش و د. محمد زنون، الشرح العملي لقانون المسطرة الجنائية، مطبعة الأمنية، الرباط، طبعة 2015م، ص: 60.
[4] – تنص المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:” يعهد إلى الشرطة القضائية تبعا للبيانات المقررة في هذا القسم بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها.
تقوم بتنفيذ أوامر وإنابات قضاء التحقيق وأوامر النيابة العامة.”
[5]– حيث أقر المشرع المغربي حماية للشهود في قانون المسطرة الجنائية، وذلك في المواد من 82-6 إلى 82-8 من قانون المسطرة الجنائية.
[6] – يجد هذا الأمر سنده في كون الجريمة المتلبس بها تكون أطوارها إما ما تزال قائمة أو أنها انتهت لتوه، مما يكون معه الوقوف على تفاصيلها أمرا مجديا كي يسهل الكشف عن معالمها.
[7] – تنص المادة 19 من قانون المسطرة النائية على ما يلي:” تضم الشرطة القضائية بالإضافة إلى الوكيل العام للملك ووكيل الملك ونوابهما وقاضي التحقيق، بوصفهم ضباطاً سامين للشرطة القضائية “.
[8] – تنص المادة 71 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:” يستلزم حضور ممثل النيابة العامة في حال وقوع جناية أو جنحة تخلي ضابط الشرطة عن العملية. ويتولى القاضي المذكور كل أعمال الشرطة القضائية المنصوص عليها في هذا الباب، ويمكنه أيضا أن يكلف أي ضابط للشرطة القضائية لمواصلة العمليات.”
[9] – تنص المادة 67 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:” يجب على كل ضابط من ضباط الشرطة القضائية أن يبين في محضر سماع أي شخص وضع تحت الحراسة النظرية، يوم وساعة ضبطه، ويوم وساعة إطلاق سراحه أو تقديمه إلى القاضي المختص.
يجب أن تذيل هذه البيانات، إما بتوقيع الشخص المعني بالأمر أو بإبصامه وإما بالإشارة إلى رفضه ذلك أو استحالته مع بيان أسباب الرفض أو الاستحالة.
يجب تضمين بيانات مماثلة في السجل المنصوص عليه في المادة السابقة.
يقوم ضابط الشرطة القضائية بإشعار عائلة المحتجز، فور اتخاذ قرار وضعه تحت الحراسة النظرية بأية وسيلة من الوسائل ويشير إلى ذلك بالمحضر. ويتعين عليه أن يوجه يومياً إلى النيابة العامة لائحة بالأشخاص الذين تم وضعهم تحت الحراسة النظرية خلال الأربع وعشرين ساعة السابقة”
[10] – لقد حدد المشرع شرطين أساسيان بتوفرهما يمكن حين إذ وضع الشخص رهن تدابير الحراسة النظرية وهما: 1) أن يتعلق الأمر بجناية أو جنحة معاقب عليها بعقوبة حبسية، 2) أن تقتضيه ضرورة البحث، وبتخلف هذين الشرطين يصبح الوضع تحت الحراسة النظرية اعتقالا تعسفيا.
[11] تنص الفقرة السابعة من المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:” إذا تعذر الحصول على ترخيص النيابة العامة خاصة لبعد المسافة، فإن ضابط الشرطة القضائية يأذن بصفة استثنائية للمحامي بالاتصال بالشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية، على أن يرفع فورا تقريرا في هذا الشأن إلى النيابة العامة”.
[12] – وذلك حسب الفقرة السادسة من المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص:” على أنه يتم الاتصال بترخيص من النيابة العامة ابتداء من الساعة الأولى من فترة تمديد الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة، تحت مراقبة ضابط الشرطة القضائية في ظروف تكفل سرية المقابلة
[13] – أضيفت الجريمة الإرهابية بموجب القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب.
[14] – تتحدد هذه الجرائم في جرائم المس بأمن الدولة الداخلي والخارجي وجرائم العصابات الإجرامية وجرائم القتل أو التسميم وجرائم الاختطاف.
[15] تنص الفقرة 11 من المادة 66 قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:” يمكن للمحامي المرخص له الاتصال بالشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية أن يقدم أثناء مدة تمديد هذه الحراسة وثائق أو ملاحظات كتابية للشرطة القضائية أو للنيابة العامة قصد إضافتها لمحضر مقابل إشهاد.”
[16] – في نفس السياق جاء قرار لمحكمة النقض نص على ما يلي:” ومن جهة أخرى فإن القواعد المتعلقة بالوضع تحت الحراسة النظرية لم يجعلها القانون تحت طائلة بطلان وعليه فلا يمكن أن يترتب عنها البطلان إلا إذا ثبت أن عدم مراعاتها تجعل البحث عن الحقيقة وإثباتها مشوبة بعيوب في الجوهر الشيء الذي لم يقع ثبوته في هذه القضية مما تكون معه الوسيلة في كل ما أثارته غير مبنية على أساس”.
– قرار صادر بتاريخ 14 يوليوز 1972 في القضية عدد 39047 (منشور بمجلة المجلس الأعلى)
[17] – الصادر في الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ 29 يوليو 2011، والمنشور في الجريدة الرسمية 5964 مكرر بتاريخ 30 يوليوز 2011، ص: 3600