الرئيسية آراء وأقلام سراديب الكتابة

سراديب الكتابة

FB IMG 1596807484143.jpg
كتبه كتب في 7 أغسطس، 2020 - 2:38 مساءً


بقلم:ذ.هند بومديان/ شاعرة وكاتبة

أن أتقن فن الكتابة ، ليس بالضرورة أن أكون كاتباً موهوباً أو شخصاً لافتاً ، بكافة الأحوال فالكلمات بواخر تقطع بحار الروح … لها صدى يسمع و يحدث الأثر ، كما أن الحروف المنيرة تطرد أدران النفس ، ليحل الصفاء و النور بوقود المحبة ، صوب الإرساء في ميناء القلب و مهجته.
فالكتابة اليومية ، أو المتكررة.. هي حروف تتبنى تلقائيا دور المختص النفسي ، الذي يساعدك بمجانية… و يكتم أسرارك عن طواعية و حب .
بين السطور ، و خلفها تطل أخبار الروح و أنباؤها … و من بين ثنايا الكلمات ، تنبثق أحوال القلب واشية بما يعتلجه ، و تبرز خبايا النفوس ، معلنة عن ما يراودها من حبور أو شجن، من ابتهاج أو ابتئاس ، من سرور أو كمد ….
فالكتابة ، سبيل إلى الإفصاح عن الحال و نقيضه ، حسب ما يحل في النفس البشرية.
يكفيك أن تلج أحضان أوراقك ، و قلمك ، للتعبير عن كل ما تعرضت له من مواقف عصيبة ، أو صدمات متكررة . حيث ان الكتابة نفسها ، تمنحك دور المعالج النفسي ، الذي يسمعك دون أن يؤنبك أو يضعك تحت ساطور الأسئلة المتكررة …خصوصا و نحن نعايش مجتمعا معبئا بالضغط ، و محملا بالمسؤوليات و المشاكل .
مجتمع ، وجد نفسه لا إراديا مكبلا بكم هائل من الأعباء .. عبء الثورة ضد المكان و الزمان …. عبء الوطن … عبء العائلة … عبء الدراسة و البطالة …. وشقاء البحث عن العمل .. عبء المصير الغامض..
مجتمع يعاني و يصارع الوقت لأجل البقاء و الحياة … وفي خضمّ كل هذا الصراع .. و كل أحلامه الشاردة .. يبحث عن مغتسلٍ بارد لهذا التعب العميق ، عساه يخفف عن نفسه أثقال كل ما كُلّف به برغبة ، أو عن غير قصد ، ربما يغتسل من أدران الحياة بالحبر والكتابة. .
فالكتابة ، لا تغيّر العالم كثيراً، و الدليل أن غالبية الكتّاب لا يشبهون لحظتهم ، تلك التي تسبق ذاك الحدث ، و لا يشبهون شخصيتهم الحقيقية .
و أنا أكتب مقالي هذا ، تبادر إلى ذهني كيف كنت أخضع ذاتي لجلسات علاج مكثفة بالتخلص من الألم و القلق ، و أحيانا الخوف و الضياع ، عبر الكتابة التي قد تنتهي بخاطرة أو قصيدة و ربما مقال أحيانا ينتهي في سطور .. و احيانا أخرى يسترسل إلى صفحات….
في كل ما أكتب، لا أرغب بأن أظهر محبة أو متعاطفة أو حتى حزينة ، أكثر مما رغبت في دور ذاك الشخص المعقّد ، المتناقض والغامض ، ولكن بصيغة أنثوية ، تعترف بذاتها ، وبأحقيتها في الظهور و التقدّم… هذا هو عمق الفكرة وجوهرها ، بالنسبة لي تبدو تلك الصفات أكثر قرباً مني إلى حقيقتي .
و الشيء اللافت والأهم في الكتابة ، ليس ما يكتبه الشخص فعليّا ، وإنّما الدافع الذي يجعله يكتب حيث أن الصراع الذي يعيشه الفرد برفقة أوهامه وخيالاته وهذيانه إن دل على شيء ، فإنما يدل على أن صاحب هذه الاختلاجات ، إنما هو إنسان وحسب .. إنسان يحاول الوصول لإنسان آخر يعيش داخله .. لا يعرف عنه شيء ولكنه معجب باحتمال وجوده وبواقع من صنيعته ، و بشخصية من إخراجه و تأليفه .
فالكتابة ، هي طريقي الأنجع للتخلص من أشد العذابات وأضناها .. طريقي للإفصاح عن كل الألم الذي لا يحكى في صدري ، ولكل الأحلام التي ألحقها وهي تلفظ النفس الأخير معلقة على مقاصل الصمت الأبدي ربما أنقدها حتى لا تحتضر .
غير غافلة عن فضلها في تثمين أحب اللحظات ، و حفظ أصدق المشاعر و أنقاها ، رغم استحالة استنساخ عمق الشعور و قوته في الورق بالقلم و المحبرة .
أراني فيها أنقد ذاتي من الضياع … كنتُ أسخّر حالات التجلّي في الشعر و الخاطرة ، كمن يخزن بذور أحلامه و أمانيه في نص أدبي كثيرا ما اعتقدته منمّقا .. لكن لا أنكر أنه كان تذكرتي للعبور إلى الضفة الأخرى .
أشعر بالسكينة و الهدوء … أشعر بالضياع بين سطوري .. أشعر بالحزن الشديد إذا ما فقدت منها شيئا .. و الغريب أنني أنسى مباشرة ما كتبت بعد تدوينه … أخبرني عني … أنني مجنونة حتما و أبتسم … ثارة تدمع عيني على فقدان جنيني الأدبي و ثارة أعاقب إهمالي بجفاء الورقة و القلم .. لكن إدماني يجعلني كما العطشى لحقنة الشغب و العبث بحفنة من حروف ألفها و أمتص أبجديتها ، و أنفث دخانها من جديد حتى أراني فيها… ولم أكن أع حين كنت أفك أغلال الضيق و أركض نحو هذا الخلاص ، تلك الخلفية العلمية التي عرفتها مؤخراً والتي تقف وراء هذا التحرّر وهذا الخلاص الذي أحصل عليه فقط من خلال الورقة والقلم .. كانت الكتابة الوسيط الهادئ والحنون الذي يقف بين عقلي وقلبي
فالكتابة ، أشبه ما تكون بالمشاعر الحاضنة للحروف و الكلمات و الأحاديث الشعورية لرعايتها و حفظها من الاندثار و الضياع و ربما التشتت ، إنها الحضن النفيس و الركن الأنيس لكل إنسان.
فعرفتُ و أيقنت أن القدر يخزن لي ثورتي ، و ثروتي ، بين حروف صارت لا إراديا ترياقا لعلتي و صمتي … فأشعر و كأن الحياة تسندني على كتفها و تربت على ألمي و تخبرني أن استيقظي فوحدك فارسة هذه الحكايا ، التي لا تنتهي بصدرك فصرت مصابة بداء القلم .
أعترف أنني من القائمة التي عالجت نفسها بالكتابة فحاربت القسوة بالقوة ، و القلق بالقلم ، و الموقف بالمقال ، فقلبت موازين ضياعي بالصراع لإثبات وجودي ، طالما آمنت دائما أن الإنسان وليد نفسه و وحده من يملك زمام أمرها و له القدرة في ترويضها .
فالروائي كارلوس ليسكانو قال : الكتابة كانت بالنّسبة إلي طريق النّجاة الوحيد لأحيا.. لم أكن كاتباً قبل دخول السّجن ، وبين جدرانه وفي عزلتي بداخلها….
هكذا أدركت أن الكتابة عن الأحلام ضرورية للغاية ، حيث أن الأحلام هي صور انعكاسية لما يدور في العقل الباطن ، وتفريغها على الورق سيمنحني رؤية جديدة.
غالباً ما نعبر بالكتابة ضفاف أرواحنا بمجداف الأحرف و الكلمات ،بغية الوصول إلى بر الأمان ، هرولة من هيجان بحر بعض الأحاسيس المتعبة و تخفيفاً من ظلمة بعض اللحظات المرهقة و مواساة في أشد الأوقات شقاءاً و إرهاقا .
فليست كل كلمة تطرق أبواب الروح و تنفلت من بين شبابيك الليل ، و ليس كل حرف يفتح أشرعة القلب ليتأرجح كنجمة بين حضن القمر ، مهما كان منمقاً و مزخرفاً… لكن السر كل السر يتجلى في نوعية الكتابة ، إذ لابد أن يكون الحرف نابعاً من أعماق القلوب و يكون الصدق و الطهر و النقاء و سمو الغاية أساسيات زينته لتقبله الأرواح و تستعذبه ببرهان و حجة… صدقاً إن الكتابة ترجمان الروح ، و مرآة الشعور و لسان الوجدان .
و هي بدون منازع ممحاة بعض الآلام ، إذ تقللها و تقنن وقعها على النفس ، هي المؤنسة حين الوحدة ، و هي المنصتة بدون انقطاع لنبض القلب الوافد للأحرف عبر القلم .
فكن ذا غاية و اهجر ظلال الخوف و لا تظل وراء سياج الفكرة بل توحد في نارها و صلها برب الأكوان ليدوم الأثر و اجعل من قلمك وسيلة لا غاية و اشحنه للجهاد في سبيل الله بهدف التغيير.
و اصنع من حرفك رحماً يولد الحب و الحنان و المواساة و الإخلاص و المودة… و اعلم أنه بغير الصدق لا تضاء الكلمات و بغير الود لا تعبر أوردة المتلقي و بدون اخلاص لا تصل إلى سويداء القلوب .

مشاركة