بقلم…معاذ فاروق
في سياق متخم بالانتظارات المعطّلة، احتضنت الخزانة البلدية لمدينة سطات لقاءً ينهض موضوعه على مركزية الشباب كفاعل سياسي غير متحقق بعد، لا بمعنى الغياب التام، بل بوصفه وجودًا محتجبًا خلف شبكة من الإقصاءات الناعمة والاعترافات الملتبسة لأسباب موضوعية أو ذاتية. لم يكن اللقاء مجرّد تمرين في البلاغة المؤسساتية، بل لحظة اختبار دقيق لمدى قدرة النسق المحلي على التفاعل مع مطلب التجديد من خارج دوائر إعادة الإنتاج.
التركيبة الحاضرة، والتي شملت رئيسة الجماعة وبعض نوابها، شكّلت تجليًا لنوع من التواطؤ الرمزي مع منطق الاستماع، في مشهد سياسي يتسم غالبًا بانغلاق الدوائر الرسمية أمام الأصوات الناشئة. غير أن اللافت في هذا اللقاء لم يكن الحضور في ذاته، بل قابلية اللحظة لأن تتحوّل إلى فضاء لتفكيك البُنى الخطابية التقليدية التي تؤطر العلاقة بين الشاب والمؤسسة، عبر استدعاء مقاربات تتجاوز التأطير التراتبي إلى منطق المشاركة الأفقي، الذي ينشد “إزالة التمركز” في صنع القرار المحلي.النقاش، وإن بدا متدرّجًا في تصاعده، حمل بين طيّاته ملامح لخطاب مغاير، يقوم على تجاوز منطق “الزبونية السياسية الرمادية” التي كثيرًا ما تحوّلت إلى آلية لاستيعاب التطلعات دون الالتزام بتحقيقها. فبين تداخلات المشاركين، كانت هناك لحظات استبطانية تُمارس من خلالها مساءلة رمزية لـ”بنيات المعنى السياسي” التي ما زالت تعتبر الشباب موضوعًا للتدبير، لا شريكًا في إعادة قولبة السلطة المحلية.قد لا يُقاس هذا اللقاء بحجم الحضور أو بثراء التدخلات، بل بما انطوى عليه من إشارات ضمنية نحو تحوّل في “البنية التداولية” للنقاش العمومي المحلي، حيث بدا واضحًا أن بعض المداخلات، دون أن تسقط في فخ التنظير، اشتغلت على إنتاج معرفة نقدية، تتوسل بـ”الخطاب اللامباشر” لتمرير مقولات سياسية ذات حمولة تفكيكية، تُربك الاستقرار الرمزي للوظائف التقليدية التي طالما أوكلت للهيئات المنتخبة ،ومع أن بعض الردود بدت متذبذبة من حيث التملك المفاهيمي، فإنها في بُعدها الرمزي تعكس نوعًا من “الاعتراف الموارب” بضرورة الانتقال من الديمقراطية التمثيلية الخاملة إلى ديمقراطية تداولية، تقوم على التفاعل لا التلقي، وعلى بناء شبكات فاعلة من “الوساطة السياسية التأويلية” التي تُعيد الاعتبار للمعنى العميق للانخراط العمومي.اللقاء، إذن، ليس حدثًا معزولًا، بل لحظة إيتيقية – تداولية تتجاوز لحظتها الآنية لتشكّل جزءًا من سيرورة إعادة هندسة الحقل السياسي المحلي، عبر تكسير صيغ التواطؤ الخطابي السابقة، واستدعاء ممكنات جديدة لمفهوم الفعل السياسي، الذي يرفض أن يُختزل في تمثيلية عددية أو في شعارات صالحة لكل السياقات.لقد أُثيرت في هذا الإطار أسئلة محورية حول التكوين السياسي، وحول “الشرعية الإجرائية” مقابل “الشرعية القيمية”، وعن أزمة الإقناع التي تطبع علاقة الشاب بالمؤسسات، ليس فقط بسبب محدودية الأدوات، بل بفعل الفجوة الإدراكية القائمة بين ما يُقدَّم وما يُنتظَر. وهي فجوة لا يمكن ردمها إلا عبر التمكين المعرفي، وإعادة إنتاج تمثّلات جديدة للفعل الجماعي ،وما يبقى في الذاكرة السياسية لهذا اللقاء ليس مجرد النقاش، بل ما تسرّب عبره من مقولات نقدية تُشتغل في العمق على تحريك البنية السياسية المحلية من داخلها، بهدوء، وبصبر استراتيجي، دون حاجة إلى الاصطدام أو التهجم، وإنما عبر التوسل بـ”بلاغة التلميح”، التي إن أُتقنت، أحدثت في النسق ما لا تُحدثه الخطابات الرنانة.
إنها لحظة توتر هادئ بين زمنٍ قديم يترنّح، وزمنٍ جديد لم تتشكّل ملامحه بعد.
وها نحن، في ختام هذه اللحظة المفصلية، نفتح بوابة أمل لفتح النقاش الجاد والهادف، متمنين أن يستمر هذا النفس التأويلي العميق، سعيًا في رفع مستوى الوعي السياسي، وتمكين الفعل العمومي من أدواته القيمية والمعرفية.