بقلم الباحث :حبيل رشيد.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يواصل التشريع الجنائي المغربي مساراً إصلاحياً عميقاً أعاد رسم ملامح العلاقة بين الضحية ومؤسسة النيابة العامة، وارتقى بمكانة المتضرر من الجريمة من موقع “المتبوع إجرائياً” إلى فاعلٍ إجرائي له صوت وحقوق وضمانات. وفي هذا المقال، نلامس تلك التحولات من زاوية صحافية تحليلية تستند إلى لغة القانون ومنهجية الممارسة القضائية، بعيداً عن الأسلوب الأكاديمي الجاف، وبقربٍ من القارئ الذي يبحث عن الفهم، ومن المتخصص الذي ينتظر الدقة، ومن المشتغل بالعدالة الذي يقدّر قيمة التفاصيل.
يمثل تقديم الشكاية اللحظة الأولى التي يدخل فيها الضحية إلى فضاء العدالة الزجرية. فبعد تسجيل الشكاية لدى الشرطة القضائية واستماع ضباطها إلى الضحية وإحالة المحضر على النيابة العامة، تبدأ مرحلة جديدة تحكمها سلطة التقدير التي يمارسها وكيل الملك أو الوكيل العام للملك بحسب طبيعة الجريمة. وفي هذه المرحلة تحديداً، تتولد مجموعة من الحقوق التي منحها المشرع للضحية، والتي تشكل اليوم إحدى أهم ركائز العدالة الجنائية الحديثة.
أول هذه الحقوق هو الحق في الإشعار بقرار الحفظ. فالأصل أن النيابة العامة حين تقرر حفظ شكاية ما، فإنها تفعل ذلك لأسباب متعددة، منها انعدام وسائل الإثبات، أو الطابع المدني للنزاع، أو تعذر الوصول إلى المشتكى به، أو لأي مبرر واقعي أو قانوني آخر. وما دام القرار يؤثر مباشرة على وضع الضحية، فقد ألزم المشرع ممثل النيابة العامة بإشعاره، هو أو دفاعه، بقرار الحفظ داخل أجل خمسة عشر يوماً من تاريخ اتخاذ القرار، عملاً بالمادة 40 بالنسبة لوكيل الملك، والمادة 9 بالنسبة للوكيل العام للملك. ويشكّل هذا الإشعار ضمانة إجرائية مهمة تمنع ترك الضحية في ظلال الانتظار المجهول، وتمنحه الحق في معرفة مصير شكايته.
غير أن التطور الأبرز في التشريع المغربي يكمن في استحداث الحق في التظلم من قرار الحفظ. لقد أدخل المشرع مفهوماً جديداً هو “التظلم”، متجاوزاً بذلك الجدل القديم حول قابلية قرار الحفظ للطعن أمام المحاكم الإدارية. فقد كانت هذه الأخيرة ترى أن قرار الحفظ ذو طبيعة قضائية صادر عن سلطة قضائية، وبالتالي غير قابل للطعن باعتباره ليس قراراً إدارياً. وبذلك كان الضحية محروماً من أي مسلك للطعن، باستثناء إمكانية تقديم طلب إخراج الشكاية من الحفظ عند ظهور وسائل إثبات جديدة.
ومع الإصلاح الجديد، أصبح للضحية أن يتظلم من قرار الحفظ المتخذ من طرف وكيل الملك أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التي تنتمي إليها المحكمة الابتدائية مصدر القرار. ويتميّز هذا التظلم بعدم خضوعه لشكل معيّن، فيجوز أن يكون كتابياً أو شفوياً، كما لا يخضع لأي أجل محدد، مما يجعل الحق مفتوحاً طيلة بقاء الشكاية محفوظة. ويمنح ذلك الضحية متنفساً قانونياً يسمح بإعادة النظر في القرار، خصوصاً عندما يكون سبب الحفظ مرتبطاً بضعف الأدلة أو غياب بعض العناصر التي يمكن تداركها لاحقاً.
أما إذا كان قرار الحفظ صادراً عن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف، فإن المشرع منح للضحية إمكانية التظلم أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، باعتباره رئيساً للنيابة العامة بمقتضى المادة 49 من المسطرة الجنائية الجديدة. وهذا التطور يعكس رغبة واضحة في الارتقاء بالضحية إلى مرتبة الشريك الإجرائي، لا مجرد شخص عارض في ملف جنحي أو جنائي.
وإذا انتقلنا إلى حق آخر، نجد حماية الحيازة وإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه. ففي كثير من النزاعات التي تمس بالعقار، قد يصدر حكم نهائي بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه وينفذ، ثم يتجرأ المنفذ عليه ويعود للترامي على العقار من جديد. في هذه الحالة، خوّل المشرع لوكيل الملك، وفق المادة 40-1، وللوكيل العام للملك وفق المادة 49-1، اتخاذ أي إجراء تحفظي يضمن حماية الحيازة وإرجاع الوضع السابق. ويتم عرض هذا الإجراء على هيئة الحكم أو التحقيق لتأييده أو تعديله أو إلغائه. وتبرز أهمية هذه السلطة التحفظية في كونها تؤمّن حماية فورية للضحية دون انتظار مرور مسار قضائي جديد قد يطول ويزيد الأضرار.
كما منح المشرع للضحية في بعض الجرائم التي تمس بالملكية العقارية الحق في استصدار أمر بعقل العقار. ويكون ذلك بطلب يقدم إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إذا تعلق الأمر بجناية، أو إلى رئيس المحكمة الابتدائية في الجنح، عملاً بالمادتين 49-1 و40-1. ويغدو هذا الحق مهماً حين يكون الجاني بصدد التفويت أو الإضرار بمحل الاعتداء، مما قد يحرم الضحية لاحقاً من حقوقه المدنية.
ومن الحقوق ذات الطابع العملي أيضاً حق الضحية في استرجاع الأشياء والأدوات ووسائل النقل أو الإنتاج، ما لم تكن محل نزاع جدي أو لازمة لسير الدعوى العمومية. ويُشترط في هذه الحالة الالتزام بالحفاظ عليها وعدم تفويتها إلى حين اكتمال الإجراءات. ويمثل هذا الحق جواباً عملياً على حالات كثيرة يتم فيها حجز وسائل رزق المتضررين أو ممتلكاتهم دون ضرورة.
ولم يغفل المشرع عن وضع آلية تسمح للضحية بإنهاء النزاع قبل تحريك الدعوى العمومية، وذلك من خلال طلب تضمين الصلح المبرم مع المشتكى به إذا تعلق الأمر بجنحة يعاقب عليها بسنتين أو أقل أو بغرامة لا تتجاوز مائة ألف درهم، عملاً بالمادتين 41 و41-1 من القانون. ويعد هذا الصلح إحدى الأدوات البديلة التي توازن بين حق المجتمع في العقاب وحق الأطراف في إنهاء النزاع دون اللجوء إلى العدالة الزجرية.
وتتجلى حماية الضحايا بشكل أوضح عندما يتعلق الأمر بالفئات الهشة: النساء، القاصرين، الأشخاص المسنين، والأشخاص في وضعية إعاقة. ففي حالة ارتكاب جريمة ضد أي من هؤلاء، أوجب المشرع على كل من شاهد الواقعة أن يبلغ أي سلطة قضائية أو إدارية، وفق المادة 43 من المسطرة الجنائية. وهذا التنصيص يرتقي بالتبليغ من مجرد خيار أخلاقي إلى واجب قانوني يهدف إلى حماية السلامة الجسدية والنفسية للفئات الأكثر عرضة للإيذاء.
إن القراءة المتأنية لهذه المستجدات تبرز أن المشرع المغربي يتجه إلى تعزيز مكانة الضحية وإعطائه دوراً محورياً في العملية الجنائية، دون المساس بسلطة النيابة العامة في الملاءمة. فهذه الحقوق ليست ترفاً تشريعياً، بل ضرورة فرضتها التحولات الاجتماعية وارتفاع وعي المواطنين بحقوقهم، وازدياد الحاجة إلى منظومة جنائية أكثر توازناً وإنصافاً.
وإذا كان المحامي يستثمر هذه الضمانات للدفاع عن موكله، والقاضي يقدّرها في إطار رقابته على شرعية الإجراءات، فإن الصحافة بدورها تتحمل مسؤولية تقديم هذا النقاش للرأي العام بلغة واضحة تدمج بين العمق القانوني والسلاسة الصحافية. والقارئ، بغض النظر عن تكوينه، يستطيع اليوم أن يدرك أن مكانة الضحية لم تعد مجرد ملحق في الدعوى العمومية، بل أصبحت جزءاً من روح الإصلاح الجنائي.
لقد انتقلنا من مرحلة كان فيها قرار الحفظ نهائياً غير قابل لأي نقاش، إلى مرحلة أصبح فيها الضحية يملك الحق في التظلم، وفي استرجاع ممتلكاته، وفي طلب حماية الحيازة، وفي طلب عقل العقار، وفي إبرام الصلح، وفي أن يُخطر رسمياً بمآل شكايته. وهذا التحول التشريعي يعكس إرادة واضحة في ترسيخ الثقة في مؤسسات العدالة وتطوير علاقة الضحية بالقانون.
وفي نهاية هذا المسار، يمكن القول إن المسطرة الجنائية الجديدة لم تُعد فقط ترتيب الإجراءات، بل أعادت ترتيب موازين العدالة بين الضحية والجاني والدولة. إنها مسطرة تمنح للضحية صوتاً وللنيابة العامة مرونة وللقضاء رقابة وللمجتمع أمناً. مسطرة تُعيد تعريف العدالة ليس بوصفها عقاباً فقط، بل حماية وإنصافاً وعودة للحق إلى مكانه الطبيعي.
تلك هي ملامح موقع الضحية أمام النيابة العامة في التشريع المغربي اليوم، كما يراها المحامي في ممارسته اليومية، ويفهمها القاضي في قاعة الجلسة، ويحتاج الصحافي إلى نقلها بوضوح وعمق، ويستحق المواطن أن يدرك من خلالها أن القانون ليس نصوصاً جامدة، بل منظومة تُصنع من أجل الإنسان أولاً وأخيراً.

