بقلم : محمد قريوش
في المشهد المغربي الراهن، يبدو أن المقاربة الأمنية أصبحت الخيار شبه الوحيد للحكومة في التعامل مع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، بينما توارت السياسة إلى الخلف. نعيش ما أسماه الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير بـ”لحظة نهاية السياسة”، حيث تغيب الفاعلية السياسية الحقيقية، ويُختزل التدبير العمومي إلى مسألة ضبط النظام.
حين نقول إن “المشكل هو السلوك”، فنحن لا نقصد المواطن فحسب، بل السلوك المؤسسي ذاته، الذي يعكس عقلية بوليسية تنزع إلى “معالجة الوسائل لا الأسباب”. إنها مقاربة سطحية، تُشبه كثيرًا ما وصفه ميشيل فوكو بـ”مجتمع المراقبة”، حيث تحل التقنيات و المقاربة الأمنية محل الفعل السياسي، ويُختزل الإنسان إلى موضوع يجب ضبطه لا مواطنًا يجب خدمته.
منع بدل إصلاح ، خزان الماء نموذجًا :
لنأخذ مثالًا صارخًا، حادث مأساوي نابع من سلوك احتجاجي على مطالب مشروعة، يتحول في رمشة عين إلى مأساة، من مطالب بفتح تحقيق إلى جريمة مزدوجة محاولة قتل و محاولة انتحار بعد ذلك، فترد السلطات بحذف “سلالم” خزان الماء بدل أن تفتح تحقيقًا يحدد المسؤوليات، كيف عولج طلب الجاني، (من قرر صعود رجال الوقاية المدنية راجلين لذلك العلو بسلم غير آمن، من استخف بمعالجلة الموضوع…)، ويعالج جذور الحنق الاجتماعي. وكأن المشكلة كانت في “السلّم”، لا في هشاشة البنية الاجتماعية، ولا في غياب قنوات الوساطة و ضعف التواصل و الانصات لمشاكل و طلبات و تظلمات المواطنيين.
إنه نموذج تكراري لما يسميه بيير بورديو بـ”العنف الرمزي”، حين تمارس السلطة عنفًا مقبولًا اجتماعيًا عبر مؤسساتها، لا ضد الفعل الإجرامي، بل ضد الفعل الاجتماعي ذاته، خصوصًا حين يصدر عن الفئات المهمشة.
نموذج آخر و هو الباعة الجائلون، فقراء يُعاقبون على اجتهادهم :
في بلد تتجاوز فيه نسبة البطالة 13%، وتعتمد حكومته على “رحمة المطر” في إنعاش التشغيل (حشب تصريح رئيس الحكومة)، تختار الدولة معاقبة الباعة الجائلين على اجتهادهم الذاتي. هؤلاء لم ينتظروا الدولة لتوظيفهم أو دعمهم، بل اختاروا أن ينتجوا من لا شيء، ومع ذلك يتم تجريمهم، وسحقهم ماديًا ومعنويًا.
أليست هذه قمة المفارقة الاجتماعية التي تحدث عنها زيغمونت باومان حين تحدث عن “نفايات الإنسان” في مجتمعات الحداثة السائلة؟ إنهم يُقصَون من سوق الشغل الرسمي، ثم يُقصَون من الفضاء العام حين يحاولون خلق فرصهم بأنفسهم.
وليس التجريد من السلع والكرامة هو المشكلة الوحيدة، بل الطريقة التي يتم بها ذلك من خلال مصادرة مهينة، غياب أي مصادرة بوصل أو جرد للسلع، وترك الأسر لمصيرها في ظل غياب أي بدائل أو ضمانات للعيش الكريم. إنها إعادة إنتاج للظلم باسم “القانون”، قانون لا يراعي البُعد الاجتماعي والاقتصادي للواقعة.
البوليسي ليس هو العدو… لكنه ليس الحل
من المهم أن نوضح، حين نقول “الحل بوليسي”، فنحن لا نهاجم المؤسسة الأمنية، التي يُفترض أن تكون آخر حلقة في سلسلة التدخل، لا أولها و التي يفترض انها تتعامل مع واقع في لحظة معينة فتنهي الخلل. المشكلة أن السياسي انسحب او تم تغييبه، فملأ فكر البوليس الفراغ، وتحول التدبير العمومي إلى إجراءات منع وضبط وتطويق.
في هذا السياق، يغيب أو تم تغييب الفاعل السياسي الذي يُفترض فيه، كما قال ماكس فيبر، أن يكون صاحب “رؤية ومشروع”، لا مجرد مُنفّذ لضرورات البقاء في السلطة أو لتوازنات فوقية. السياسي الحقيقي هو من يشتغل على الأسباب لا الأعراض، على بنية الأزمة لا مظاهرها.
ما بين هوبز وروسو… من يحكم؟
يبدو أن الدولة في المغرب قد حسمت أمرها منذ زمن و اختارت أن تحكم بمنطق هوبز، حيث السلطة هي الضامن الوحيد للأمن، بدل منطق روسو، الذي يرى في العقد الاجتماعي مشروعًا للعدالة والمشاركة. بين سلم الخزان المحذوف وسلع الباعة الملقاة على الأرض، نجد حكومة تدير أزماتها لا تُعالجها، تُسكت و تتجاهل المجتمع بدل أن تُصغي إليه.
لقد آن الأوان للعودة إلى جوهر السياسة، فهم الواقع، والاستماع للناس، والعمل على بناء حلول من الداخل، لا تصدير الخوف من الأعلى لتجنب مآلات حتمية تقود للفوضى و العنف الناتج عن اليأس.