بقلم النقيب الأستاذ إبراهيم صادوق
الجزء التاني:
أخذ الطموح إلى المحاماة يدب إلى ضلوعي ويسكن جوارحي، وأشعر أن الكثير من العقبات والصعاب يلزم تخطيها لبلوغ هذا المطمح النبيل والمهنة السامية. وكانت حدود إدراكي لها مسيَّجة باستعراض ضروب البلاغة والبيان وفصاحة اللسان، لكنني سأدرك فيما بعد، نتيجة قراءات متعددة وبفعل الدربة والمران والخبرة والممارسة، أن الفاعلين في الحقل مشاعل وطلائع الشعوب في حركة التحرر الوطني وهم حملة الفكر التحرري والوعي النازع نحو التقدم والحداثة والتنوير.
استحوذ علَيَّ الطموح وتقوى بعد الحصول على شهادة البكالوريا، فاخترت دون تردد الالتحاق بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بالرغم من نزوع أدبي ظل مستحكما بالنفس، لأني كنت مقتنعا في قرارة نفسي بتكافل العقل والوجدان، وبتشافع القانون والأدب، وبتناغم الحقوق والأخلاق، وبانسجام المبدع والقانوني، الأستاذ والمحامي في شخص كل امرئ خلوق تعلم مكارم الأخلاق وتأدب بها في مضارب قلعة السراغنة.
كانت المسيرة الجامعية منتظمة وموفقة، كللتها شهادة الإجازة التي قادتني توا إلى مقر هيئة المحامين بالدار البيضاء لأقدم ملف ترشيحي للالتحاق بالمهنة، بعد أن قرر صديق طفولتي وشريك أحلامي ورفيقي وزميلي فيما بعد، ذ. إدريس أبو الفضل، الانضمام إلى هيئة المحامين بمراكش.
أرقني الانتظار على امتداد ستة أشهر ما فتئت خلالها أتردد على مقر الهيئة مستطلعا مآل ملف ترشيحي. وكنت دوما أتلقى الجواب بأنه ما زال قيد البحث والإجراءات الضرورية: إحالة الملف على النيابة العامة، ومن تم على الضابطة القضائية لمسقط الرأس قصد البحث والتحري حول سلوك المعني بالأمر وسوابقه العدلية..
والواقع أني حملت في مخيلتي جملة مثاليات عن مهنة المحاماة. ثم رأيت كيف تصطدم منذ الوهلة الأولى بهذا الإجراء، إذ كيف يوائم أن يظل قبول المحامي رهينا بالسلطة التنفيذية، علما أن الخروق القانونية التي ترتكبها هذه السلطة تشكل موضوع دفاع المحامي، خاصة حين يرتبط الأمر بملفات الاعتقال السياسي، مثلما تشهد بذلك محاكمات اليسار المغربي في أعوام الرصاص وسنوات الجمر والرماد.
وكان يوم 16 دجنبر 1976 يوما مشهودا في حياتي، بل ظل موشوما في ذاكرتي، إذ قدمني النقيب محمد الودغيري لأداء اليمين القانونية أمام هيئة الغرفة المدنية بمحكمة الاستئناف، وذلك رفقة زملائي الأساتذة عبد اللطيف الحاتمي المحامي بهيئة الدار البيضاء، عبد السلام حشي المحامي بهيئة الناضور، والمرحوم الأستاذ اعبابو. تملكني إحساس دافق باللحظة الأولى التي أرتدي فيها بذلة النبل والسمو وغمرني شعور عميق بالمسؤولية وضرورة التبصر والرزانة والوقار، وأنا أتلقى باقتضاب شديد توجيهات السيد النقيب التي أرشدتني في بداياتي إلى دلالة ومغزى ارتداء بذلة المحاماة.
تلا السيد رئيس كتابة الضبط القَسَمَ القانوني الذي يؤديه المحامون في بداية مشوارهم المهني:
” أقسم بالله العظيم أن أمارس مهام الدفاع والاستشارة بكرامة وضمير واستقلال وإنسانيـة، وأن لا أحيد عن الاحترام الواجب للمحاكم والسلطات العمومية، وقواعد مجلس الهيئة التي أنتمي اليها وأن لا أفوه أو أنشر ما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة وأمن الدولة والسلم العمومي «.
رفعت يمناي مرددا أمام جلال الهيئة ووقارها: “أقسم بذلك”. وفي جوارحي يعتمل الإحساس العميق بالمسؤولية وتقدير جلال المهنة التي اخترتها حبا وطواعية، وبوثاقة رباط المودة الذي سيربطني بزملائي الذين أديت اليمين رفقتهم في زمن واحد.
التحقت بعد ذلك متمرنا بمكتب المحامي الأستاذ أحمد بنمنصور التونسي الجنسية، وذلك بناء على توصية من النقيب الأستاذ محمد الناصري الذي قدمه له وعرفه به الصديق المشترك ورفيق الدرب محمد شناف الذي كان صديقه ورفيقه في النقابة الوطنية للتعليم، قبل تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
تزامن أداء اليمين القانونية مع انطلاق أشهر محاكمة لليسار المغربي: منظمة إلى الأمام ومنظمة 23 مارس ولنخدم الشعب، ولضرورات أمنية، تقرر عقد غرفة الجنايات بمحكمة آنفا الابتدائية، وترأسها آنئذ القاضي السيد محمد أفزاز الذي صار فيما بعد كاتبا عاما لوزارة الأوقاف، ثم رئيسا للمجلس العلمي بمدينة وجدة.
غصت القاعة بما يزيد عن مائة وأربعين مناضلا، معظمهم شباب مثقف تحمس للتحرر والانعتاق من السلطات المخزنية بعد أن تحرر من معطف الأحزاب الشرعية حينذاك: الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية. وكان الخروج تحت لواء اليسار الجديد بأفق تنظيمي مستقل، يتم مع هبوب رياح المعسكر الشرقي والأفكار الشيوعية القادمة من الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية.
وتحتفظ ذاكرتي بأسماء وملامح العديد ممن مثلوا أمام المحكمة: إبراهام السرفاتي، عبد الفتاح الفاكهاني، بلعباس المشتري، إدريس بنـزكري، المرحوم عبد السلام الموذن، علال الأزهر، عبد القادر الشاوي، بنشقرون، الشقيقان عزيز وصلاح الوديع، ركيز، جبيهة رحال … وقد انبرى للدفاع عنهم الأساتذة عبد الرحيم برادة وعبد الرحيم الجامعي، بالإضافة إلى العديد من الزملاء الأساتذة المعينين في إطار المساعدة القضائية.
واظب على مواكبة أطوار المحاكمة، لأن تطبيقات معظم فصول المسطرة الجنائية تثار خلالها، ولتعاطف مكين يشكل حبل سرة مشيمي يصله بهؤلاء الشباب الماثل في قفص الاتهام.
غاب الأستاذ عبد الرحيم برادة عن حضور الجلسات، برغم مؤازرته لعدد كبير من المناضلين، وهو ما كان مثار سؤال واستفهام. وقيل حينها إن الشرطة حاصرت منزله بدعوى حمايته وتحصينه من بعض الجهات المعادية للخطر الأحمر. لكن، مهما تعددت الأقوال، تظل حقيقة هذا الغياب منزوية في ذاكرة الأستاذ عبد الرحيم برادة.
حدث موشوم في الذاكرة، حدث بصم الروح والوعي، ومارس آثارا في مساري المهنـي، إذ كنت لا أزال حديث العهد بالمحامـاة، وفي طور التمرين تحديدا، نبت عن الطرف المدني في قضية جنحية بالمحكمة الابتدائية بالبيضاء، وامتثالا لتوصيات المكتب، لزمني الإدلاء بمذكرة المطالب المدنية والتماس الحكم وفق ما تحمله سطورها، غير أني ارتأيت، بدافع الاجتهاد، أن أرافع شفويا. ولم تكن المرافعة الشفوية إلا تكرارا لما هو مسطور في المذكرة الكتابية. واجهنـي السيد القاضي رئيس الجلسة بابتسامة ملؤها السخرية، ومحامي الطرف الآخر صادَقَ عليها بابتسامة أخرى من النمط نفسه، أحسست بحنق شديد، وأخذ العرق يتصبب من جبيني، ولم أعد أقوى على الحركة بالبذلة السوداء.
غادرت المحكمة وقد انتابني قلق وجودي، يلوح في أفقه سؤال المصير، واستهلكت اليوم برمته في فضاءات مكتبة الحبوس أفتش عن مذكرات أو يوميات محامي أو أحد رجالات القضاء، فما ظفرت بشيء، اللهم ما كان من كتاب واحد لمؤلفه الأستاذ الصفريوي، يتضمن القانون المنظم للمهنة، واعتبر لمدة طويلة إنجيل المرشحين لاجتياز امتحان الأهلية.
ومنذ هذه اللحظة، ظل السؤال يراودني بإلحاح: لماذا لا يقدم رجال المحاماة والقضاء على كتابة سيرهم الذاتية؟ لماذا لا يعبرون عن تجاربهم كتابيا، للحفاظ على الذاكرة أولا، ولإنقاذها من الموت ثانيا، ولتمريرها للقادمين إلى الاشتغال في مجال العدل قصد الاستفادة منها ثالثا؟ وقد أثمرت هذه التجربة والأسئلة المنبثقة عنها الانكباب عام 2005 و2006 على كتابة مقاطع من سيرة ذاتية تحت عنوان: في رحاب المحاماة؛ وهي السيرة التي تركت حين صدورها أثرا طيبا لدى الفاعلين في حقل العدالة ولدى عموم المثقفين والمهتمين بالشؤون الأدبية.
منذ التحاقي بهذه المهنة النبيلة، وخلال مساري في رحابها، التقين الكثير من الرجالات والأسماء التي أعتد بمعرفتها وصداقتها وبما مارسته على من آثار في مشواري المهني. ولو شئت ذكر الأسماء، فلا شك أن قائمة محدودة لن تستوعب الجميع من رجال العدالة، قضاة ومحامين، ومن غير رجال العدالة، أي ممن ينتسبون إلى حقول عمل أخرى. فالكثيرون كانوا مثالي وقدوتي. بل ارتقوا إلى مستوى النموذج المثالي اعتبارا لتفانيهم في أداء مهمتهم وفق أخلاقيات وأعراف مهنة المحاماة، وهي الأخلاقيات والأعراف التي ظلت نبراسا لي في كل طور وحين؛ ودافعت عنها من موقعي كمحامي ثم كنقيب بعد ذلك في صفوف هيئة المحامين بمراكش؛ بل وخصصنا ضمن هذه الهيئة الكثير من المحطات والملتقيات العلمية والتكوينية لترسيخ أخلاق المهنة وأعرافها التي تضعها في مصاف المهن النبيلة التي يزاولها الإنسان وهو مطمئن البال. نحن المحامين ندافع عن قضايا الناس، وبالقدر نفسه ندافع عن قضيتنا الأولى والسامية: نبل المحاماة؛ فلا معنى للمحاماة كمهنة وأخلاق وأعراف إن لم تكن على رأس القضايا التي يتعين على المحامي الدفاع عنها والعمل على ترسيخها بشتى الوسائل المتاحة. وفي هذا السياق، ندرك ما دلالة تنوير السابقين للاحقين بهذه الأخلاقيات والأعراف.
الإحساس العميق بالمسؤولية، والرغبة في تبليغ الدفاع للهيئة، ومحاولة إقناعها بما أومن به، اعتبارا مني بأن المحكمة تصدر أحكامها بناء على اقتناعها الراسخ من خلال الوقائع والقرائن، وليس بناء على شيء آخر؛ تتصارع في ذهني المشاعر والأفكار، وتنتابني الحيرة في اختيار استهلال المرافعة؛ وهذه أشياء تعتمل دوما في ذهني سواء تعلق الأمر بالطلبة التقدميين أم بغيرهم. وهذا ما حدث معي خلال محاكمة مجموعة مراكش 1984 وخاصة منذ إحالة الملف على غرفة الجنايــات.
فقد توبع في هذه المحاكمة، كما هو معروف، مجموعة من الطلبة من بينهم: عباد محمد، اليونسي محمد، الطعارجي عبد الصمد، النكير عبد الرزاق، معايفي عزيز، بلهواري مصطفى، الدريدي مولاي الطاهر، الحميدي مصطفى، العطروز عبد اللطيف، حاجي عثمان، الحراث حسن، المصريوي محمد، بلبرك محمد، سراج سنة عبد الصمد، بنيوب جمال، نارداح خالد، الإدريسي مولاي رشيد …وغيرهم؛ إذ بلغ عدد المتابعين في هذه المحاكمة 36 شخصا.
كان من بين المتابعين الزميل الأستاذ اليونسي محمد المحامي المتمرن آنذاك بالهيئة.
كما أن السادة الطعارجي عبد الصمد، والمصريوي محمد وبلبرك محمد وسراج سني عبد الصمد التحقوا بالمهنة بعد قضائهم لفترة العقوبة المحكوم بها وأصبحوا محامين بهذه الهيئة.
انعقدت هذه المحاكمة برئاسة القاضي ادريس بن الزاوية وعضوية السادة: العربي مظفر الادريسي / اليمين محمد / محمد أساسي / محمد حاجي ومثل النيابة العامة بها السيد اليزيد الشركي، ومساعدة يفيق الحسين كاتبا للضبط.
وكان للأستاذ ابراهيم شرف مؤازرة المتهمين تطوعا الى جانب زملائه الأساتذة: عبد الرفيع جواهري الذي ناب عن جميع المتهمين والأساتذة: خليل محمد المهدي وابادرين ، والمجدوبي ، وتكزرين ، وابو الفضل وأيت معطى الله والنابغة والحميدي وحمومي والشرقاوي وإيشوا والشكرا والمحمودي والبقيوي والغرباوي والأستاذ وهبي محمــــد .
في البداية تقدمت هيئة الدفاع بملتمس يرمي الى استدعاء ضباط الشرطة القضائية بالبيضاء الذين حرروا هذه المحاضر، ونائب الوكيل العام للملك السيد موحى الدهري لمساءلته حول تمديدات الحراسة النظرية التي جاءت خرقا للقانون ، ملتمسين الإشهاد لهم أيضا بعدم توفر علانية الجلسة .
وبعد انسحاب المحكمة للمداولة في هذه الدفوع الشكلية عادت وصرحت برفضها معتبرة ان علانية الجلسة متوفرة.
ثم عادت هيئة الدفاع والتمست بطلان المحاضر لكونها محررة من طرف ضباط خارج اختصاص هذه الدائرة، وبأن تمديدات الحراسة غير قانونية لأنها أعطيت على بياض ودون طلب من ضباط الشرطة، وأن المتهمين أرغموا على إبصامهم على المحاضر بعد ان رفضوا توقيعها، مما يجعل المحاضر وتمديدات الحراسة باطلة، وأن هيئة الدفاع تتمنى على المحكمة بأن لا تفاجئها بسلسلة من الرفض لكل دفوعاتهم المبنية على أسس سليمة من القانون.
وفي جلسة 08/05/1984 التي استأنفت بها المحاكمة أعلنت الهيئة رفضها أيضا لهذه الدفوع الشكلية.
ثم عادت هيئة الدفاع والتمست القول بان تفتيش منازل المتهمين كانت في غيبتهم ودون إذن منهم، فقررت المحكمة أيضا الرفض.
وشرعت في استنطاق المتهمين وتتلخص وقائع هذه القضية حسب المحاضر المنجزة بشأنهـــا:
أنه خلال سنوات 78-83 انضم المتهمون للمنظمة السرية: ” القاعديين” واتخذ بعضهم طريق الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتعاضديات الكليات مطية لذلك. ومنظمة القاعديين هذه امتداد للمنظمة المحظورة المعروفة باسم “إلى الأمام” ذات الاتجاه الماركسي اللينيني من بين أهدافها القريبة والبعيدة نشر الإيديولوجيا الشيوعية بين صفوف الطلبة والتلاميذ والأوساط المثقفة واستقطاب أكبر عدد ممكن منهم للانضمام الى صفوفها والتشبع بمبادئها وأفكارها والإيمان بأهدافها واستغلال كل فرصة متاحة ومواتية لخلق البلبلة والفوضى بقصد إضعاف سلطة الدولة والإطاحة بالنظام السياسي القائم وإقامة دكتاتورية عمالية محله.
وفي أوائل يناير من السنة الجارية 1984 قامت مجموعة من تلك العناصر ذات الاتجاه الماركسي اللينينـي وروجت إشاعات مغرضة بين صفوف التلاميذ والطلبة وعامة السكان الآمنين تتعلق بإقرار وزارة التعليم أداء رسم عن ملف الترشيح لاجتياز امتحان البكالوريا وعزم الحكومة على الزيادة في أسعار المواد الأساسية، وقد استطاعت المجموعة المذكورة بمساعدة ومساهمة بعض الطلبة والتلاميذ الذين وقع الاتصال بهم بحكم نشاطهم السياسي في إطار هذه المنظمة تعبئة تلاميذ مجموعة من الثانويات بالمدينة وحثها على الإضراب ثم صعدت نشاطها بالدعوى الى تخريب التجهيزات المدرسية وبعض التجهيزات الحكومية، وتطور الأمر الى مظاهرات عنيفة بالطرق العامة بالمدينة وخاصة منهــا سيدي يوسف بن علي وطريق عرصة المعاش وحي الداوديات، حيث كان المتظاهرون من التلاميذ والطلبة ومن انضم اليهم من العاطلين وذوي السوابق القضائية يرشقون قوات الأمن والسيارات العمومية والخصوصية بالحجارة، ويرددون شعارات مناهضة للسياسة الحكومية، وتقدح في المؤسسات الوطنية والدستورية المقدسة للبلاد.
وقد ترتب عن كل ذلك خلق جو من الاضطراب وعدم الاستقرار وزعزعة الأمن داخل المدينة، ولولا تدخل سلطات الأمن ولطف الله لكانت لتلك الأحداث عواقب وخيمة على البلاد عموما وعلى مدينة مراكش خصوصا.
وقد استغرق استنطاق المتهمين ابتداء من تاريخ 08/05/1984 إلى غايــــة 17/05/1984. وتلخصت مرافعة النيابة العامة في إعادة سرد الوقائع التي تزامنت مع الاستعداد لاحتضان المؤتمر الإسلامي بالبيضاء معتبرة أن تصريحات المتهمين لدى الضابطة القضائية مفصلة وواضحة بالإضافة إلى أن المحجوزات المتكونة من مخطوطات وكتب معينة تم تحضيرها وفق أهداف المنظمة الرامية الى قلب النظام القائم وإحلال آخر مكانه، وأنها تتضمن الاستهزاء بالدين الإسلامي، والمس بكرامة جلالة الملك، موضحا أنه بالنسبة للكتب فان حيازتها وقراءتها لا تكونان جريمة، ولكن علاقتها بالأفعال شيء آخر وهو استغلال ما تضمنته من أفكار معادية للدين وللنظام وهو ما يفسر هدف المتهمين، وأنها ليست بقصد التثقيف وإنما هي أسلوب عمل …
وكان أول المترافعين من هيئة الدفاع النقيب موفق محمد الحبيب الذي كان نقيبا ممارسا آنذاك مبينا في مرافعته أنه يرافع في هذه القضية لكون أحد المحامين ” اليونسي ” متهما بها، متسائلا عن الأدلة والقرائن المثبتة للتهم المنسوبة للمتهمين خاصة أنهم ينكرونها في كل الأطوار مضيفا بان مصلحة البلاد لا تتحقق بإنزال أقسى العقوبات بتلاميذ ليس لهم من تجارب الحياة بعد شيئا يذكر.
وتلاه المرحوم الأستاذ الغرباوي مشيرا الى أن الرابطة بين الطلبة هي الدراسة وبالتالي لا يمكن اعتبارها خلايا، والتفسير المعطى للكتب بأنها تتضمن الأفكار الشريرة وتستمد منها الأفكار الماركسية لا يتلاءم ووجودها في كل مكان.
متسائلا عن الأركان المادية لجريمة المؤامرة حسب الفصل 175 من القانون الجنائي الذي يشترط توفر تصميم عن العمل بعد حصول الاتفاق بعد المناقشة بين شخصين فأكثـر، وهذه أشياء لا وجود بها بل كل ما هو معروض أمام المحكمة كتب ومخطوطات ومناشير وهذه ليس في المستطاع تصور أنها وسائل لقلب النظام.
وقد كان ترتيبي لتناول الكلمة عاشرا بين زملائي حسب اللائحة التي قدمها للهيئة الأستاذ النقيب. كانت وقائع القضية واستنطاق المتهمين وأجوبتهم، والمحجوزات المعروضة عليهم كأدلة لإثبات التهم الموجهة إليهم والدفوع الشكلية التي سبق إثارتها أمام المحكمة وجوبهت بالرفض تتزاحم في ذهني، وتطرح على أسئلة متعاقبة ولا متناهية.
افتتحت مرافعتي بالآية الكريمة: “رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري واحلل عقدة لساني”، مشيرا في البداية إلى أن متابعة النيابة العامة صيغت بعناية فائقة، توحي بثبوت الأفعال ضد المتهمين وبأن الطلبة القاعديين التقدميين وراءها، وأن كل المحاضر تنطق من أنه بناء على ما توصلت به الشرطة من أخبار لمبلغ خاص دون الإشارة الى هوية هذا المبلغ، مما يبقى معه كل شيء مبنيا للمجهول، مرددا الآية الكريمة “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.
بالإضافة الى أن محرر المحضر سمح لنفسه بعد عرض الوقائع الواردة به أن يستخلص استنتاجات بمثابة أحكام صادرة عنه وهذا تجاوز لاختصاصه، إذ علينا جميعا أن نقف ضد هذا التطاول حفاظا على حقوق وكرامة المواطنين وأن من سوء حظ هؤلاء المتهمين أنهم أحيلوا على النيابة العامة بمراكش التي قررت متابعتهم بجرائم خطيرة لا علاقة لهم بهــــا.
هذه الجملة ستجر علَيَّ متاعب كثيرة، إذ فوجئت في اليوم الموالي بشكاية مرفوعة ضدي من طرف السيد الوكيل العام للملك موجهة إلى النقيب لكون ما ورد على لسان الدفاع يشكل لمزا وسخرية في حق السلطة القضائية.
وللحقيقة والتاريخ فإنه لولا الموقف الشريف لرئيس الجلسة القاضي الفاضل إدريس بن الزاوية ولممثل النيابة العامة بها المرحوم الأستاذ اليزيد الشركي اللذين أكدا للسيد الوكيل العام آنذاك المرحوم احمد المصمودي أن ما ورد في دفاعي لا يشكل مسا بالقضاء، وأن للدفاع حصانته وحرمته أثناء المرافعات الشفوية؛ ولولا هذا التوكيد، لأخذت هذه القضية منحى آخر.
وهذه المرافعة مثبتة في الحكم الصادر في هذه القضية، وتكشف صفحاته ما جاء في مرافعات الزملاء الذين تطوعوا للدفاع في هذه القضيـــة. كما تكشف طبيعة العمل الذي نقوم به في مثل هذه القضايا، وطبيعة المشاعر التي تكتنف هذا العمل…
تعرفون أن الدفاع حق لكل مواطن بصرف النظر عن انتماءه السياسي أو ولاءه الإيديولوجي. وفي ممارسة الدفاع، لا ندافع عن أشخاص أو عقائد سياسية أو إيديولوجية بل ندافع في المقام الأول والأخير عن العدالة بصفتها موطن الإنسان وندافع عن القيم الإنسانية النبيلة وعن حقوق الإنسان وعما يرسخ دولة الحق والقانون والمؤسسات…
النقيب إبراهيم صادوق