الرئيسية آراء وأقلام الذكاء الاصطناعي والمهام القضائية في الهندسة: تحديات الواقع وآفاق التطوير

الذكاء الاصطناعي والمهام القضائية في الهندسة: تحديات الواقع وآفاق التطوير

IMG 20250624 WA0035 scaled
كتبه كتب في 24 يونيو، 2025 - 1:13 مساءً

صوت العدالة/ علاء الكداوي مهندس و خبير قضائي

تُعد الخبرة القضائية في مجال الهندسة من الركائز الأساسية التي تعتمد عليها المحاكم في الفصل في عدد من النزاعات ذات الطابع التقني، خاصة تلك المرتبطة بالبناء والتعمير والعقارات. إذ تلعب التقارير التقنية التي يعدها الخبراء دورا محوريا في توضيح الملابسات الفنية وتحديد المسؤوليات بدقة بين الأطراف المتنازعة. وتأتي أهمية هذه الخبرة نظرا لطبيعة النزاعات المعروضة على القضاء والتي تتطلب معرفة دقيقة بمفاهيم هندسية يصعب على القاضي غير المتخصص الإحاطة بها. غير أن التطورات التكنولوجية المتسارعة، خصوصا في مجال الذكاء الاصطناعي، بدأت تطرح تساؤلات عديدة حول كيفية تحديث أدوات وآليات الخبرة القضائية لتواكب هذه التحولات التقنية. فقد أصبح الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة عنصرا فاعلا في العديد من القطاعات، بما في ذلك البناء والتخطيط المعماري، مما دفع بعدد من الدول إلى إدماجه في منظومة العدالة، سواء في مرحلة التحليل التقني أو التقييم الموضوعي أو التقدير المالي. وفي هذا السياق، شرعت بعض المحاكم والهيئات التقنية في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية متقدمة في اعتماد برمجيات تحليل تعتمد على الذكاء الاصطناعي من أجل دراسة المخططات الهندسية ومعالجة صور الأقمار الصناعية والمعاينات الميدانية التي يتم التقاطها بالطائرات بدون طيار، حيث تُستعمل هذه التقنيات في رصد الاختلالات التي قد تعتري الأشغال المنجزة مقارنة مع التصاميم المرخصة أو المعايير المعتمدة، كما تُستخدم لتحديد مصادر العيوب البنيوية بشكل أسرع من الطرق التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، تساهم خوارزميات التعلم الآلي في التنبؤ بحالات الخطر أو الفشل الإنشائي استنادا إلى معطيات رقمية سابقة، وهو ما يسمح للمحاكم بالحصول على تقارير مدعمة بتحليلات متقدمة ومبنية على قواعد بيانات ضخمة دون أن تُلغى أهمية التقييم البشري. ورغم أن هذه الممارسات لا تزال محدودة من حيث التطبيق العملي إلا أنها تُظهر توجها متزايدا نحو اعتماد الذكاء الاصطناعي كآلية مكملة لدور الخبير البشري، خاصة في الملفات المعقدة التي تتطلب معالجة كمية كبيرة من البيانات التقنية. من جهة أخرى، فإن إدماج هذه التقنيات في السياق المغربي يطرح عدة تحديات تتعلق بالبنية القانونية والتكوينية واللوجستيكية، حيث إن الإطار التشريعي المنظم لمهنة الخبرة القضائية لا يشير بعد إلى استعمال أدوات تحليل ذكية أو منصات تقنية لدعم التقرير القضائي، كما أن عددا من الخبراء لا يتوفرون على التكوين الضروري للتعامل مع هذه الأدوات الرقمية، ما يستدعي مراجعة منظومة التكوين والتأطير المهني من أجل فتح المجال أمام إدماج هذه الحلول بشكل تدريجي ومنظم. وتبقى مسألة الحياد والموثوقية من أبرز الانشغالات التي ترافق استعمال الذكاء الاصطناعي في المجال القضائي، إذ يُطرح السؤال حول مدى إمكانية اعتماد النتائج التي تصدرها البرامج الذكية كأدلة تقنية داخل المحاكم، ومدى قدرة الخبير على تفسيرها والدفاع عنها من الناحية العلمية والقانونية. كما أن التباين في جودة البرمجيات والمعطيات التي تعتمد عليها قد يؤدي إلى تباين في النتائج، ما يفرض ضرورة وجود معايير واضحة ومقننة لاعتماد هذه الأدوات داخل منظومة العدالة. في المقابل، فإن الاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال قد يُساهم في بناء نموذج مغربي تدريجي يراعي الخصوصيات القانونية والتنظيمية الوطنية، وينفتح في الوقت نفسه على الإمكانيات الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة. ويظهر من خلال تتبع التطورات الجارية في عدة دول أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل الخبير القضائي، بل سيوفر له أدوات إضافية تساعده على أداء مهمته بدقة وفعالية، كما سيمكنه من تحسين جودة تقاريره وتعزيز قدرتها على مواكبة تعقيدات الملفات المعروضة على القضاء. وبذلك، فإن تفعيل الذكاء الاصطناعي في مجال الخبرة القضائية الهندسية يظل رهينا بإرادة مؤسساتية واضحة وتعاون فعّال بين مختلف الفاعلين، من قضاة وخبراء ومهندسين وتقنيين، في أفق تطوير عدالة تقنية متقدمة وعادلة في الآن ذاته

مشاركة