بقلم: عبد الباقي البوجمعاوي
في عالم تبدو فيه الدولة، على السطح، حاميةً للنظام، ضامنةً للأمن، وساهرةً على استقرار المجتمعات، يلوح في الأفق سؤال مقلق: ماذا لو كانت الدولة، نفسها، طرفاً ضمنياً في إنتاج الجريمة، لا عن عجز، بل وفق منطق خفي يُعيد ترتيب أولويات الوعي الجماعي؟ هذا السؤال لا يُطرَح بنية الاتهام، بل بنية الفهم؛ إذ لا يمكن تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية المعاصرة بمنطق ظاهرها فقط. فالجريمة، في بعض السياقات، لا تنفجر من الهامش وحده، بل تتسلل، بتدبير أو تساهل، من مركز السلطة، حيث تتقاطع أدوات الضبط مع استراتيجيات الإلهاء.
ميشيل فوكو، الفيلسوف الذي دقّق في مسارات السلطة الحديثة، يؤكد أن الدولة لم تعد تعتمد فقط على الردع الصارم، بل باتت تشتغل من خلال آليات أكثر نعومة وخفاء: المراقبة، التصنيف، إنتاج الخوف، وتوزيع “الانضباط” على الأجساد والعقول. الجريمة، وفق هذا المنظور، لا يُراد لها أن تُمحى، بل أن تُدار. فوجودها، وإن بمقادير “مقلقة”، يضمن حاجة دائمة للدولة، ويُعيد تثبيت صورتها كملاذ وحيد أمام الفوضى المحتملة. الدولة لا تقضي على الجريمة، بل تُبقيها على حافة الانفجار، كي لا يُطرح سؤال أكبر: لماذا تُفقر المجتمعات؟ لماذا تُهمّش الطبقات؟ لماذا تُقمع المطالب العادلة؟ هكذا، تتحوّل الجريمة إلى أداة ضبط، لا هدف القضاء.
أما أنطونيو غرامشي، فينبهنا إلى أن الهيمنة لا تُمارَس بالقوة وحدها، بل عبر إنتاج القيم والمعاني. النظام لا يحتاج دوماً إلى قمعك، بل يكفيه أن يُقنعك بأن ما يحدث هو الطبيعي، أو أنه لا بديل له. في هذا السياق، الجريمة ليست دوماً شذوذاً، بل قد تتحول إلى جزء من الثقافة العامة، تُدرج في الإعلام، وتُحوَّل إلى فرجة، وتُستثمر سياسياً في خلق خوف دائم، يُشوش على القضايا الأعمق. المواطن الذي يُربك بمشاهد الاعتداء، والذي يُربك أكثر بتكرارها دون حل، يتحول إلى كائن يائس، مُنكمش، يائس من التغيير، وأكثر التصاقاً بالقوة المسيطرة.
في المغرب، يمكننا ملاحظة هذه الدينامية بوضوح مؤلم. ارتفاع وتيرة الجريمة، وتحوّلها إلى حدث يومي، لم يعد مجرد مؤشر على خلل اجتماعي، بل قد يكون، في بعض صوره، أداة ضمنية لإعادة تشكيل النقاش العام. كم من قضية سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، جرى نسيانها فجأة بعد جريمة مروعة؟ كم من خطاب احتجاجي خفت صوته، لأن الرأي العام انشغل بحادث فردي، مثير ومفجع، لكنه لا يُناقش الجذر؟ إن تحويل الجريمة إلى صدمة جماعية يُلهي الناس عن الأسئلة الجذرية: العدالة، توزيع الثروة، الحريات، الفساد البنيوي.
إن توظيف الجريمة كشكل من “الانشغال الدائم” لا يعني بالضرورة التآمر، بقدر ما يعني أن السلطة، حين تُدرك أثر الصدمة، تبدأ في تنظيمها وتوظيفها. الإعلام يتحول هنا إلى وسيط سياسي غير معلن، يُضخّم الحدث العنيف، يُفرغه من سياقه، ويحوّله إلى مشهد يتكرر حتى يفقد الناس حساسية الأسئلة الكبرى. وتصبح الجريمة، لا باعتبارها مأساة فردية، بل كصورة عامة، وسيلة لإعادة إنتاج اللامبالاة، ومبرراً لإطالة عمر السلطة.
هذا لا يعني تبرئة الفاعل الإجرامي، ولا تعميم النية الخبيثة على كل المؤسسات، لكنه يعني أن الجريمة، كما العنف، ليست مجرد خلل، بل قد تكون في أحيان كثيرة عرضاً سياسياً لمرضٍ أعمق: مرضُ تقويض الوعي، وتشتيت الانتباه، وتحويل المطالب المجتمعية إلى فُتات خوف وذهول.
حين يُقتل النقاش باسم الطمأنينة، وتُسكت الأسئلة باسم الأمن، وتُنشر مشاهد الرعب في نشرة الثامنة، وتُطوى ملفات الفساد والصحة والسكن والتعليم في هامش اللامرئي، نكون أمام نظام يُدير الخطر بدل أن يُعالجه، ويوظّف الرعب بدل أن يُحارب أسبابه.
وفي خضم هذا كله، لا بد من التوضيح أن الغاية من هذا المقال لم تكن يوماً الطعن في مؤسسات الدولة، ولا تقديم المجرم كضحية خالصة، بل السعي نحو فهم أعمق لبنية اجتماعية وسياسية تُنتج، أحياناً، ما تزعم محاربته. فالمجرم يظل مسؤولاً عن فعله، كما أن الدولة تظل مسؤولة عن ضمان الأمن والعدالة، غير أن النظر في الخلفيات والسياقات يُمكّننا من رؤية ما هو أبعد من اللحظة، وما هو أعمق من الحدث. ذلك أن الجريمة لا تبدأ من السكين، بل من فكرة، ومن شعور باليأس، ومن تآكل الثقة في المعنى. وهنا، يصبح النقاش ضرورياً، لا عدائياً. فالدولة التي نطمح إليها ليست تلك التي تُخيف، بل التي تُنير.