وهيب ايت زري
في حي سكني هادئ بالدار البيضاء، تصطف المنازل البيضاء بواجهاتها المصقولة كأنها لوحات مرسومة بعناية. النوافذ مزدانة بستائر أنيقة، والأبواب الخشبية مطلية بألوان زاهية توحي بالدفء والطمأنينة. في الأزقة الضيقة، تمر نساء يحملن سلال التسوق بخطوات سريعة، فيما يلهو الأطفال بكرات صغيرة لا تخرج أصواتهم عن حدود الحي. من الخارج، كل التفاصيل توحي بالاستقرار والرفاهية، كأن هذه البيوت تخفي وراء جدرانها حياة مريحة ومطمئنة.
لكن الحقيقة مختلفة. وراء تلك الواجهات البراقة، تختبئ قصص صراع صامت لا يراه أحد. في كل بيت حكاية، وفي كل غرفة هم مؤجل أو فاتورة تنتظر السداد. هنا تعيش عائلات الطبقة المتوسطة، تلك التي تبدو من بعيد ميسورة الحال، لكنها في الواقع تعيش على حافة الفقر. تبتسم في المناسبات الاجتماعية وتبدو مرتاحة في أعين الآخرين، بينما هي تكافح يوميا لمواجهة ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي لا تمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها.
مظهر أنيق وحياة مرهقة
سارة، موظفة في شركة خاصة تبلغ من العمر 38 عاما، تجلس في بيتها البسيط الذي تزينه لمسات أنثوية متواضعة؛ ستائر خفيفة بلون فاتح، طاولة صغيرة عليها أكواب شاي لم تغسل بعد، وصوت التلفاز الخافت في الخلفية. أطفالها يلعبون بهدوء في الزاوية، كأنهم يدركون أن صمتهم يخفف عنها عبئا ثقيلا. تبدو سارة أنيقة في مظهرها الخارجي، ابتسامتها لا تفارق وجهها أمام الضيوف، لكن عينيها تحملان آثار سهر طويل وتفكير لا ينقطع.
بصوت يخفي الكثير من الإرهاق، تقول: “الناس يعتقدون أننا مرتاحون، لكننا نحسب كل درهم قبل صرفه. الفواتير، الأقساط، التعليم، وحتى الطعام… كلها حسابات لا تنتهي”.
قصة سارة ليست استثناء، بل انعكاس لصورة آلاف الأسر التي تعيش بين عالمين متناقضين. من الخارج، كل شيء يوحي بالاستقرار: ملابس مرتبة، هواتف حديثة، وسيارة صغيرة متوقفة أمام المنزل. أما في الداخل، فالواقع مختلف تماما؛ صراع يومي مع الأرقام، ميزانية مشدودة كخيط رفيع على وشك الانقطاع، وقرارات صعبة تتخذ كل يوم بين ما يجب التضحية به وما يمكن تأجيله. إنها حياة مزدوجة بين المظهر الاجتماعي البراق والواقع الاقتصادي المرهق، حيث يصبح البقاء في خانة “الطبقة المتوسطة” معركة صامتة بحد ذاتها.
ديون صامتة وضغوط متواصلة
أسر الطبقة المتوسطة في المغرب تجد نفسها بشكل متزايد أمام خيار وحيد تقريبا، اللجوء إلى القروض أو الاستدانة الشهرية لتغطية أساسيات حياتها. هذه المعطيات، التي كشفتها تقارير اقتصادية حديثة، ليست مجرد أرقام إحصائية عابرة، بل انعكاس مباشر لحياة آلاف العائلات التي تدور في حلقة مفرغة من الالتزامات المالية. كل راتب يدخل البيت محملا بالأمل، لكنه يخرج سريعا مثقلا بالاقتطاعات، تاركا وراءه إحساسا بالاختناق المستمر وكأن الأسرة تعيش سباقا يوميا لا نهاية له.
أحمد، موظف في القطاع العام يبلغ من العمر 42 سنة، يجسد هذه الصورة المرهقة. في غرفة جلوس صغيرة يغلب عليها أثاث قديم مرتب بعناية، يجلس متكئا على أريكة باهتة اللون، بينما يضع على الطاولة دفترا صغيرا مليئا بالأرقام والديون المؤجلة. بابتسامة مترددة يحاول أن يخفي قلقه، لكنه سرعان ما يعترف قائلا: ” لا نملك امتيازات الفقراء ولا ثراء الأغنياء، نعيش في منطقة رمادية، حيث نجبر أحيانا على الاختيار بين دفع فاتورة الكهرباء أو شراء ما يسد رمق أطفالنا”.
قصته تكشف التناقض الصارخ الذي يعيشه هو وزوجته يوميا: جلسات مطولة لإعادة جدولة المصاريف، حسابات دقيقة لتوفير بضع دراهم من هنا وهناك، وتنازلات متكررة عن أبسط الكماليات. قرار شراء حذاء جديد للطفل قد يتحول إلى نقاش طويل، وزيارة عائلية قد تلغى لتجنب تكاليف النقل، وحتى وجبة في مطعم أو لعبة صغيرة للأطفال تعتبر ترفا بعيد المنال.
الأرقام الرسمية تزيد الصورة قتامة، فالقروض العقارية وحدها بلغت قيمتها أكثر من 317 مليار درهم مع نهاية النصف الأول من عام 2025، بارتفاع 3% عن السنة السابقة. القروض السكنية تحديدا شهدت نموا ملحوظا بنسبة 6.6%، في حين اتجه جزء مهم من الأسر نحو التمويل التشاركي (المرابحة)، الذي بلغت قيمته حوالي 25 مليار درهم سنة 2024.
ولا تقف الديون عند العقار فقط، بل تمتد لتشمل الحياة اليومية. فالقروض الاستهلاكية بلغت 162 مليار درهم في عام 2024، مسجلة ارتفاعا بنسبة 7.9%. وتشكل القروض الشخصية الحصة الأكبر بنسبة 69%، تليها قروض المركبات بنسبة 17%، ثم قروض الأجهزة المنزلية التي تمثل 12%.
كل هذه المؤشرات تجعل من الدين جزءا لا يتجزأ من حياة الطبقة المتوسطة المغربية، حيث تتحول الأقساط الشهرية إلى رفيق دائم يفرض إيقاعه على تفاصيل الحياة اليومية. فالراتب لا يكفي، والادخار أصبح حلما بعيد المنال، والعيش بلا قروض يبدو شبه مستحيل بالنسبة لعدد متزايد من الأسر.
معاناة خلف الصمت
إلى جانب الأعباء المالية التي تكاد تثقل كاهل الأسر المتوسطة، هناك ضغوط نفسية واجتماعية لا تقل ثقلا. كثير من أفراد هذه الطبقة يعيشون حالة من القلق الدائم، إذ يخشون البوح بمشاكلهم لأي شخص، خشية حكم المجتمع عليهم بالضعف أو الفشل. في الاجتماعات العائلية، أو بين الجيران، تظهر الابتسامة، وتبدو الحياة مثالية، بينما في الداخل، هناك خوف مستمر من أن يكشف أي خطأ صغير عن هشاشة الوضع المالي.
هذه المعاناة الصامتة تجعل الطبقة المتوسطة أكثر عرضة للتوتر النفسي والإرهاق المستمر. فهي تقع بين فئتين: الأسر الفقيرة التي تحظى ببعض برامج الدعم الاجتماعي، والأثرياء الذين يمتلكون موارد تمكنهم من مواجهة أي أزمة طارئة. وبالتالي، تتحول المشاكل المالية البسيطة إلى عبء نفسي مضاعف، ينعكس على الحياة الأسرية، العلاقات الزوجية، وحتى على الأطفال الذين يشعرون بالتوتر دون معرفة أسبابه بالكامل.
في هذه البيئة، يصبح الصمت حماية، لكنه أيضا قيد. الأسر تحاول التماسك، التظاهر بالاستقرار، وإخفاء الضغوط اليومية، بينما يظل التحدي الأكبر هو إدارة هذا التوازن الهش بين المظهر الاجتماعي والواقع الاقتصادي، دون أن تنهار الأسرة أو يضيع حلم المستقبل.
بحث عن حلول بديلة
رغم الضغوط المالية والاجتماعية، تحاول بعض الأسر المتوسطة في المغرب ابتكار حلول فردية لتخفيف الأعباء اليومية. يلجأ العديد من أفراد هذه الطبقة إلى ممارسة أعمال جانبية بعد ساعات العمل الرسمية، مثل تقديم الدروس الخصوصية للأطفال، أو التجارة عبر الإنترنت، أو حتى تقديم خدمات صغيرة للجيران. هذه الجهود الفردية تهدف إلى توفير دخل إضافي بسيط يكفي لتغطية بعض المصاريف الشهرية الطارئة، أو لتأمين احتياجات الأسرة الأساسية دون اللجوء إلى مزيد من الديون.
لكن هذه المحاولات، رغم أهميتها، لا تمنح حلا جذريا. فهي غالبا ما تتطلب ساعات عمل إضافية، وتزيد من التعب النفسي والجسدي، وتجعل أفراد الأسرة يعيشون في حالة من الانشغال المستمر بين الوظيفة الرسمية والعمل الإضافي. ومع ذلك، تبقى هذه الاستراتيجيات الفردية وسيلة ناجعة للبقاء فوق المياه، وتمنح الأسرة شعورا مؤقتا بالتحكم في حياتها المالية، حتى لو كان ذلك على حساب وقت الراحة أو الأنشطة الاجتماعية والترفيهية.
صورة غير مرئية
يبقى التحدي الأكبر هو تسليط الضوء على واقع الطبقة المتوسطة وإعطاؤها صوتا مسموعا في النقاش العام، بدل أن تبقى قصصها مخفية خلف الواجهات المصقولة والابتسامات اليومية. هذه الفئة تمثل العمود الفقري للمجتمع، فهي تعمل، تدفع الضرائب، وترعى أسرها، لكنها تعيش على حافة الهشاشة. بين الاستقرار الظاهري والضغوط المستمرة، يمكن أن تؤدي أي أزمة مالية مفاجئة أو ظرف طارئ إلى دفعها نحو الفقر في لحظة، رغم مظهرها المريح.
وراء كل بيت مرتب وابتسامة مصطنعة، توجد ساعات من القلق والتوتر، وحسابات دقيقة لكل مصروف، وقرارات يومية صعبة حول ما يجب شراؤه وما يمكن تأجيله. هذه الصورة غير المرئية للطبقة المتوسطة تكشف هشاشة حياتهم اليومية، وتجعل الحاجة إلى الاعتراف والتفهم أكثر إلحاحا في النقاشات الاقتصادية والاجتماعية.

