وهيبة ايت زري
لم تعد طقوس السحر والشعوذة الغامضة حبيسة الدكاكين المظلمة، ولا أسرار البخور والتمائم مقتصرة على جلسات سرية بين المشعوذ وزبونه.
اليوم، يكفي أن تفتح تطبيق “تيك توك” حتى تجد حسابات تحمل أسماء مثل “مولات اللدون” أو “الشريف/ة” أو “فلان الساحر”، حيث يتعهد أصحابها بفك العكس، ورد المطلقة، وتيسير الزواج، وحتى جلب الحبيب.
المقابل لم يعد زيارة مباشرة أو جلسة طويلة، بل هدايا افتراضية على المنصة وأحيانا تحويلات مالية حقيقية. هكذا تحول السحر من طقس سري يحدث في الظل إلى عرض مباشر يبث على “تيك توك”، يتابعه الآلاف ويقع في شباكه العشرات كل يوم.
“جلب الحبيب”.. وعود وهمية تبتلع أموال وهدايا المتابعات
على “تيك توك”، لم يعد الغريب مجرد مقاطع رقص أو مقاطع ساخرة، بل ظهر صنف جديد من “المؤثرين” يقدم نفسه في صورة مشعوذ عصري قادر على حل أعقد المشاكل العاطفية والعائلية. وسط هذا العالم الافتراضي يبرز حساب لافت يحمل اسما مثيرا “الشريف”.
صاحب الحساب شاب في مقتبل العمر، لا يشبه الصورة النمطية للمشعوذ بجلابته البالية وبخور يتصاعد من جنبات غرفة مظلمة؛ بل يتفنن في الظهور بكاميرا عالية الجودة، وأصابع مغطاة بالخواتم، وساعدين يثقلان بأساور لامعة، يقدمها على أنها تذكارات وهدايا من متابعات ممتنات بعد “نجاح وصفاته”.
خلال بثوثه المباشرة، لا يتردد في التباهي بقطع جديدة كل مرة: “هذا خاتم ديال ذهب من فتيحة من وجدة بعدما رجعت ليها خطيبها”، و”هذه سرتلة ديال ذهب من سارة من إسبانيا بعد ما تفك العكس اللي كان عندها”.
المتابعون لا يرون في المشهد مجرد استعراض للزينة، بل يلتقطونه كـ دليل يوحي بأن “النتائج مضمونة”، وأن وراء كل قطعة مجوهرات حكاية نجاح. إنها استراتيجية مدروسة للإقناع: إذا نجح الأمر مع غيرك، فبالتأكيد سينجح معك.
لكن وراء هذه الواجهة اللامعة تختبئ قصص خيبة ومرارة. “كريمة” (إسم مستعار)، 34 سنة، مطلقة، تحكي بتردد تجربتها مع مشعوذي “تيك توك”: “في الأول كنت غير كنضحك على هادشي، ما كنصدقوش. لكن بعدما شفت مئات التعاليق من الناس اللي كيشكروا، قلت علاش ما نجربش، يمكن يرجع راجلي. سيفطت لواحد السيد هدايا كثيرة على البث المباشر، وقال لي في ثلاثة أيام غادي يرجعليك راجلك ولكن ما كانت حتى شي نتيحة، ومن بعد بدا يطلب مني هدايا جديدة باش “إقوي الخدمة” وطلب مني نسيفط ليه لفوس باش اشري لبخور تما عاد فهمت بلي غير باغي انصب عليا.
قصة كريمة ليست استثناء، العشرات من النساء، في لحظات ضعف عاطفي أو يأس اجتماعي، يقعن فريسة لوعود “جلب الحبيب” أو “فك العكس” أو حتى “فتح أبواب الرزق”. ولأن المشعوذ يقدم نفسه عبر شاشة الهاتف لا في ركن مظلم من حي شعبي، فإن الوهم يكتسي شرعية جديدة، ويبدو أكثر قربا من الواقع.
اللافت أن هذه الحسابات لا تكتفي بالهدايا الرقمية التي يرسلها المتابعون عبر خاصية “تيك توك”، بل يتجاوز الأمر أحيانا إلى تحويلات مالية مباشرة، بحجة شراء بخور خاص أو أحجار كريمة نادرة أو “الذبيحة”. وهكذا تتحول المنصة إلى سوق افتراضي للوهم، حيث يتم استنزاف الضحايا تدريجيا دون أن يحصلوا على أي نتيجة ملموسة.
ألوان الجن تنتقل من الظل إلى العلن
يظهر المشعوذون على “تيك توك” في ثوب مختلف، شباب بملابس أنيقة وعصرية، يختار بعضهم أن يتقمص ملامح نسائية ويستحضر ألوانا لها دلالات عميقة في المخيال الشعبي المغربي. هذه الألوان ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل رموز راسخة ارتبطت منذ قرون بعالم الطقوس السحرية و”الليالي الكناوية”، حيث يعتقد أن لكل ملك من ملوك الجن لونا خاصا يميزه ويحضر به.
يرمز الأبيض إلى “سيدي عبد القادر الجيلالي” كرمز للنقاء والسكينة، بينما يجسد الأحمر “الباشا حمو” بما يحمله من طاقة وقوة. الأسود يرتبط بـ “ميمونة” بما يوحي به من غموض وهيمنة، في حين يرمز الأصفر إلى “ميرة” وما يعكسه من إشارات للخصوبة والحياة. أما الأزرق، فيبقى مرتبطا بـ “سيدي موسى”، رمز البحر والاتساع والعمق الروحي.
هكذا، تحولت الألوان من مجرد خلفية للطقوس السرية إلى لغة بصرية واضحة على “تيك توك”، حيث يستعرض هؤلاء الشباب هويتهم السحرية أمام جمهور واسع، ليصبح عالم الجن حاضرا على الهواتف بعد أن كان حكرا على الليالي الخفية والدوائر الضيقة.
استغلال جهل الضحايا.. خداع بصري ولفظي على “تيك توك”
في البث المباشر على “تيك توك”، يستغل بعض المشعوذين جهل المتابعين بالقواعد والطقوس. هؤلاء الأشخاص، غالبا شباب يرتدون ألوانا زاهية مرتبطة بملوك الجن أو رموز تقليدية، يستخدمون كلمات خاصة بالسحر لا يفهمها المشاهدون، ليخلقوا إحساسا بالقوة والغموض، ويحفزوا المتابعين على إرسال الهدايا والتحويلات المالية.
كل تفصيل في البث، من الإضاءة إلى ألوان الملابس وحتى نبرة الصوت وطريقة تقديم الوعود، مصمم بعناية ليبدو مشهدا حقيقيا وموثوقا، بينما الهدف الحقيقي يظل واضحا: جمع الهدايا واستغلال رغبات الناس في الحلول السريعة لمشاكلهم العاطفية أو النفسية.
منح “تيك توك” للمشعوذين فضاء مفتوحا للوصول إلى جمهور واسع من الباحثين عن الوهم. فالأشخاص الذين كانوا يترددون في قصدهم خوفا من نظرة المجتمع أو بفعل الفوارق الطبقية، وجدوا أنفسهم اليوم أمام شاشة تذيب تلك الحواجز. هكذا تحول العالم الافتراضي إلى مسرح تعرض فيه طقوس تدر أرباحا، حيث يعاد إنتاج الخداع في قالب يبدو واقعيا، لكنه قائم في الأساس على الوهم والاستغلال.

