وهيبة ايت زري
في مجتمعنا يعيش عدد كبير من المغاربة صراعا داخليا صامتا مع اضطرابات نفسية غالبا ما تفهم بشكل خاطئ أو تقابل بالوصم الاجتماعي. هؤلاء هم “الصامتون“، الذين يحاولون التعايش مع قلق واكتئاب واضطرابات ذهانية في صمت، خوفا من نظرة المجتمع أو الحكم عليهم بالضعف او الجنون.
صراع داخلي
في زاوية هادئة من مقهى وسط مدينة الدار البيضاء، جلست زهرة (اسم مستعار – 33 سنة) أمام فنجان قهوة لم تمسه منذ دقائق. كانت يداها تتحركان بلا توقف، تشبك أصابعها ثم تفصلها، تلمس الملعقة الصغيرة، تضعها جانبا، ثم تعود لتضغط عليها مرة أخرى. رأسها ينحني قليلا للأمام، وعيناها تتبعان حركة المارة خلف الزجاج، كأنها تبحث عن شيء مفقود أو تنتظر شيئا لن يأتي. كل هذه الحركات الصغيرة تعكس توترا داخليا لم تستطع التخلص منه.
رفعت عيناها إلي فجأة، وحين التقت عيناي بعينيها، ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة، كقناع هش يخفي وراءه صمتا عميقا وأوجاعا غير معلنة، ثم أومأت برأسها ببطء، وعيناها تلمعان بشيء من الحزن وقالت: “أحيانا أشعر أن العالم كله يشاهدني من الخارج، ويرى ابتسامتي، لكن لا أحد يعرف ما بداخلي. أريد أن أصرخ، أن أخبر أحدا، لكن الخوف… الخوف يجعلني أصمت.
راقبت يديها وهي تلتصق ببعضها مرة أخرى، ثم تركت إصبعها يمر على حافة فنجان القهوة وكأنه يحاول السيطرة على شيء أكبر منه: “أحيانا أفكر أن مجرد الكلام قد يجعل الآخرين يظنون أنني ضعيفة، أو مجنونة. وهذا ما أخشاه أكثر من أي شيء آخر”. ابتسمت ابتسامة قصيرة، ثم خافت قليلا: “المجتمع حولي لا يفهمني، وكل النصائح التي أسمعها تزيدني شعورا بالذنب”.
تنهدت، وأخذت فنجانها ببطء، وكادت دمعة أن تهوي على الخشب الداكن للطاولة قبل أن تخفيها بعناية: “أشعر أن الصمت هو الطريق الأسهل، لكنني أعلم أنه ليس الحل. أعلم أنني أحتاج لمساعدة، لكن الطريق طويل”.
أحكام المجتمع.. الخوف من “الجنون”
زهرة ليست حالة فردية، بل تمثل نموذجا لآلاف المغاربة الذين يعيشون صراعا صامتا خلف أقنعة الابتسامة والهدوء الظاهري. في مجتمع محافظ، لا يزال الحديث عن الصحة النفسية محاطا بالوصم الاجتماعي، ويرتبط غالبا بأحكام مسبقة مثل “الضعف” أو “فقدان السيطرة”. أي إشارة إلى القلق، الاكتئاب، أو أي اضطراب نفسي غالبا ما تفسر بشكل خاطئ، ويقابل المريض بنصائح سطحية مثل “سافر قليلا”، “فكر بإيجابية”، أو “حاول نسيان الأمر”.
هذه النصائح، رغم حسن النية، تتحول في الواقع إلى ضغط إضافي على المريض، إذ تشعره أن معاناته غير مقبولة وأن طلبه للمساعدة علامة ضعف. كثيرون يختارون الصمت بدلا من مواجهة الأحكام، ويخفي بعضهم آلامه خلف واجهة من القوة الزائفة، ما يفاقم شعورهم بالعزلة والوحدة. هذا التردد في الحديث عن معاناتهم يخلق دائرة مفرغة، حيث يصبح الصمت حلا مؤقتا لكنه يزيد من تفاقم الأعراض النفسية على المدى الطويل.
“سفاح ابن أحمد”.. حين يتحول الصمت إلى مأساة
قضية سفاح بن أحمد تعد مثالا صادما على العواقب المحتملة لإهمال الصحة النفسية في المغرب. الرجل المسن، كان يعاني من اضطرابات نفسية حادة لم تتلق العلاج المناسب، ومع ذلك لم يقدر حجم خطورة حالته من قبل الجهات المختصة أو المحيط الاجتماعي. في لحظة انهيار مأساوية، أقدم على ارتكاب سلسلة جرائم أثارت صدمة كبيرة، ما جعل وسائل الإعلام تسلط الضوء على الحالة بشكل واسع.
الحادثة كشفت عن ثغرات كبيرة في متابعة المرضى النفسيين، خاصة في المناطق التي تعاني نقصا في بنيات الاستقبال والعلاج، وضعف الخدمات النفسية المجانية. وفي الوقت نفسه، تذكر هذه القضية أن غياب التشخيص المبكر والعلاج الفعال قد يؤدي في بعض الحالات إلى تصعيد المواقف إلى أعمال عنف صادمة.
الحادثة أثارت نقاشا عاما حول الحاجة إلى تعزيز المراقبة الطبية، وتسهيل الوصول إلى العلاج النفسي، ورفع الوعي المجتمعي حول الأمراض النفسية، لتقليل حالات الانفجار المفاجئ للصمت والمعاناة التي يعيشها المرضى، وحماية المجتمع من تداعياتها المحتملة.
أرقام تكشف حجم أزمة الصحة النفسية في المغرب
تكشف الإحصاءات الرسمية عن حجم أزمة الصحة النفسية في المغرب بوضوح، حيث يعاني نحو نصف السكان تقريبا أو سبق لهم أن عانوا من اضطرابات نفسية، إذ أظهرت الدراسات أن 48.9% من المغاربة مروا بهذه التجربة في مرحلة ما من حياتهم. وتتوزع هذه الاضطرابات بين الاكتئاب بنسبة 26%، واضطرابات القلق 9%، والاضطرابات الذهانية 5.6%، فيما يمثل الفصام 1%، مع آثار اجتماعية واقتصادية وخيمة، أبرزها الوصم والتمييز، الذي يحد من فرص “الصامتون” في الحصول على العلاج المناسب.
ويواجه المغرب نقصا حادا في الأطباء النفسيين، حيث لا يتجاوز عددهم طبيبا واحدا لكل 100,000 نسمة، مقارنة بالمعدل العالمي 1.7 والمعدل الأوروبي 9.4 لكل 100,000 نسمة.
أما البنية الاستشفائية، فهي محدودة للغاية، حيث لا تتجاوز 6.43 سريرا لكل 100,000 نسمة، مقارنة بالمعدل العالمي 13.3 سريرا، ويضم المغرب 25 مصلحة للطب العقلي بـ825 سريرا، و11 مستشفى للأمراض النفسية بـ1,343 سريرا، مما يحرم “الصامتون” من الوصول إلى الرعاية اللازمة.
كسر الصمت .. دعوة للمجتمع نحو التعاطف والدعم
تجربة زهرة ليست مجرد قصة شخصية، بل مرآة تعكس صراع عدد كبير من المغاربة الذين يعيشون في صمت مع اضطرابات نفسية غير مفهومة أو مقبولة اجتماعيا. هذا الصمت ليس خيارا، بل نتيجة ضغط المجتمع وأحكامه المسبقة التي تجعل من الحديث عن المرض النفسي أمرا صعبا ومحرجا. “الصامتون” يحتاجون إلى أكثر من كلمات مواساة؛ هم بحاجة إلى استماع حقيقي، دعم ملموس، وفهم يحررهم من قيود العزلة.
إن كسر حاجز الصمت يعني الاعتراف بأن المرض النفسي ليس علامة ضعف، بل حالة صحية تتطلب نفس القدر من الرعاية والاهتمام كالمرض الجسدي. يحتاج المجتمع إلى إعادة النظر في صورته النمطية، ومساعدة الصامتين على التعبير عن معاناتهم دون خوف من الوصم أو التمييز. إن دعمهم وتوفير الرعاية المناسبة لا ينقذ حياتهم فحسب، بل يساهم في بناء مجتمع أكثر إنسانية، قادر على التعامل مع تحديات الصحة النفسية بوعي وتفهم.
في نهاية المطاف، القبول والدعم يمثلان المفتاح لكسر دائرة الصمت، وتحويل معاناة الأفراد إلى حكايات عن الشجاعة والتغلب على الصعاب، حيث يجد الصامتون مساحة للتعافي، والتعبير، والمشاركة في مجتمع يفهمهم ويحتضنهم.

