الرئيسية إجتهادات وقرارات قضائية دور بدائل الدعوى العمومية في تحقيق نجاعة العدالة الجنائية

دور بدائل الدعوى العمومية في تحقيق نجاعة العدالة الجنائية

Screenshot 20200420 193923.png
كتبه كتب في 20 أبريل، 2020 - 7:36 مساءً

فيصل كرمات

موظف بالمحكمة الابتدائية امنتانوت

مستشار بمركز سوس ماسة للدراسات القانونية والاجتماعية

باحث بسلك الدكتوراه

بدائل الدعوى العمومية جاءت لتمثل دورا هاما في الإجراءات الجنائية، كما أن السياسة الجنائية في معظم دول العالم أصبحت تأخذ منحى الفكر التصالحي، عبر إنهاء الخصومة الجنائية بأسلوب غير ذلك المتبع في الإجراءات الجنائية التقليدية الهادفة إلى إيقاع العقاب على الفاعل، وقد وجدت هذه السياسات أصداءها في المؤتمرات الدولية، وفي العديد من التشريعات الإجرائية في العالم، سواء في النظام الانجلوسكسوني أو النظام اللاتيني، وتماشيا مع هذا التطور فقد تبنت العديد من دول العالم أنظمة قانونية مستحدثة لإنهاء الخصومة الجنائية، منها الصلح الزجري والوساطة الجنائية، ولقلة الأبحاث في هذا الموضوع من ناحية، ولإحجام تشريعات العربية عن تبنيه من ناحية أخرى، فقد جاءت هذه الدراسة لتلقي الضوء عليه، وتضعه في الميزان، سعيا منها لتقديم إضافة لما سبقها من دراسات حول هذا الموضوع،ولوضع التوصيات اللازمة بخصوصها، لعلها ترى النور في السياسة الجنائية المغربية.

ونعتقد أن البحث موضوع الدراسة لم يلق ما يستحق من الدراسة والتحليل من طرف الفقه المغربي ذلك أن الدراسات التي تناولته قليلة جدا وهذا راجع بالأساس إلى كون هذا الموضوع يدخل في خانة المواضيع الإجرائية التي يصعب الخوض في أغوارها بالرغم من أهميتها.

IMG 20200420 WA0105

إن اختيارنا لموضوع بدائل الدعوى العمومية كعنوان لهذه الدراسة جاء بناء على وعي متجذر بأهمية هذه الإجراءات المسطرية في إنهاء النزاعات ذات الطابع الجنائي بصورة رضائية تكفل لجميع الأطراف ضمانات العدالة المنشودة، وكذا لارتباط هذه الأخيرة بعدة جوانب قانونية وأخرى مسطرية تتعلق ببيان كيفية ممارسة كل من مسطرة الصلح الزجري والوساطة الجنائية باعتبارهما بديلين من هذه البدائل كما هو منصوص عليه في المادة 41 من  قانون المسطرة الجنائية المغربي بالنسبة لمسطرة الصلح الزجري، وفي مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد بالنسبة للوساطة الجنائية، هذه الجوانب للموضوع أعطت لمجال البحث اتساعا كبيرا، وجعلته موضوعا جديرا بالدراسة، خصوصا إذا أخدنا بعين الاعتبار اختلاف التشريعات المقارنة في تنظيمها لإجراءاتها، وهو الاختلاف الذي امتد إلى الفقه القانوني فأثر فيه تأثيرا كبيرا حال دون إمكانية بلورة نظرية متكاملة وموحدة تحكم الموضوع.

سنحاول أن نتناول موضوع بدائل الدعوى العمومية من خلال إشكالية رئيسية يمكن صياغتها على النحو التالي:

إلى أي مدى تستطيع بدائل الدعوى العمومية أن تساهم في تحقيق نجاعة العدالة الجنائية ؟

وتقتضي الإجابة عن هذا السؤال الجوهري التطرق إلى أهم خصائص بدائل للدعوى العمومية (الفقرة الأولى)، ثم إلى الحديث عن دور بدائل الدعوى العمومية في الحد من أزمة العدالة الجنائية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: خصائص بدائل للدعوى العمومية

تشهد السياسة الجنائية المعاصرة توجها جديدا للأخذ بفكرة الرضائية والتخلي عن فكرة العقوبة وتبني بدائل للدعوى العمومية، باعتبار أن الدعوى هي الوسيلة القانونية الوحيدة لتطبيق العقوبة التي أصبحت قاصرة عن تحقيق أهدافها في الردع والإصلاح، فنشأ ما يعرف بأزمة العدالة الجنائية، الأمر الذي زاد في تعقيد الإجراءات وتراكم الدعاوى الجنائية، فظهرت اتجاهات حديثة تنادي بتطبيق بدائل للدعوى العمومية تجسد العدالة التصالحية.

و نظرا للدور الهام الذي لعبته بدائل الدعوى العمومية عبر المد التاريخي، وللمكانة التي كانت تحتلها في تسوية النزاعات بين الأفراد والقبائل، وما أفرزته من نجاح في التئام صفوف الأفراد والمجتمعات، وللدور الهام الذي أصبحت تقوم به في عصرنا الحاضر، بأساليب جديدة تساهم في استقرار المجتمع والحفاظ على كيانه وتماسكه، فإن بدائل الدعوى العمومية  لحل المنازعات أصبحت تحتل مكانة بارزة في الفكر القانوني الحديث سواء على مستوى الدراسات الفقهية أو على مستوى إقرارها بمختلف الأنظمة القانونية والقضائية العصرية، فبدائل الدعوى العمومية هي تلك الآليات التي يلجأ لها الأطراف عوضا عن القضاء عند نشوء خلاف بينهم بغية التوصل لحل الخلافات، وتمثل هذه الآليات أساسا في نظام الصلح الزجري والوساطة الجنائية والتسوية الجنائية ونظام الشكوى والتنازل عنها، ونظام مفاوضة الاعتراف، بالإضافة إلى نظام الأمر الجنائي.

هناك عدد مهم من المزايا التي توفرها بدائل الدعوى العمومية للأطراف المتنازعة، وهي ما يجعلها تمثل حظوظا وافرة للنجاعة وهي في مجملها تهتم بالمتطلبات الأساسية الواجب على الوسيط الالتزام بمراعاتها، والسعي إلى استكمالها ضمانا لتهيئة البيئة المواتية لتمكينه من أداء مهمته، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة للأطراف المعنية، ومساعدته في التوصل إلى صيغة مقبولة من كليهما، والتوصل إلى تسوية أو حل لمشكلات أو قضايا النزاع، ومن ثم نجاح بدائل للدعوى العمومية، ومن بين أهم تلك الخصائص ما يتعلق بالقضايا والأبعاد المتصلة بحياد وشكل أو نمط الاجتماع.

   ويوجه الكثير من الباحثين في مجال القانون انتقاداتهم للجهاز القضائي ويصفون هذا النوع من العدالة بأنها بطيئة وجد معقدة، ومتباعدة وغالبا ما تكون غير مؤكدة في حين أن بدائل للدعوى العمومية تتميز بالخصائص التالية:

1/سرعة الفصل في النزاع واختصار الوقت

يعتبر ازدياد نسبة الجرائم  وكذا حالات العود من بين العوامل التي أثبتت فشل العقوبة في حماية المجتمع من الجريمة، وبما أن العقوبة نتوصل إليها من خلال مباشرة إجراءات الدعوى العمومية، دعا الفقه إلى هجر فكرة العقوبة، وبالتالي هجر الدعوى العمومية باعتبارها الوسيلة القانونية للوصول إلى تطبيق العقوبة، من هنا بدأ البحث عن أنظمة إجرائية بديلة للدعوى العمومية.

      من بين المشاكل التي تعاني منها جل الأنظمة القضائية، كثرة القضايا المعروضة على المحاكم وتزايدها بشكل ملفت للانتباه، وقلة الموارد البشرية، إضافة إلى ضرورة التقيد بالإجراءات الشكلية والتي يؤدي الإخلال بها إلى ضياع الحق من صاحبه، وصدور أحكام لا تنسجم في بعض الأحيان مع روح العدل والإنصاف.

وبالإضافة إلى ما ذكر، هناك البطء في إصدار الأحكام، بسبب تعدد المساطر والمراحل القضائية وما يرتبط بذلك من تبليغ وتنفيذ، بحيث أن المعدل العمري للقضايا قد يصل إلى أكثر من أربع سنوات ناهيك عن ضعف بعض الأحكام ونقصان جودتها.

ومن خلال ما ذكر يتضح أن حل النزاع عن طريق بدائل للدعوى العمومية بصفة عامة يتم بالسرعة واختصار الوقت بالمقارنة مع النظام القضائي التقليدي، الذي يستغرق البث في النزاع أمامه مدة  زمنية طويلة، حيث أن القانون لم يحدد مدة زمنية للفصل في النزاع.

    2/ السرية

من المبادئ المسلم بها قانونيا ودستوريا مبدأ علنية الجلسات أمام المحاكم القضائية، باستثناء بعض القضايا التي يفرض القانون مناقشتها في السرية، في حين أن المبادئ الأساسية التي تقوم  عليها إجراءات بدائل للدعوى العمومية هو مبدأ السرية، سواء تعلق الأمر بالوسيط أو بالأطراف المتنازعة، فمبدأ المحافظة على السرية يجعل الأطراف المعنية تعبر عما لديها بكل حرية، أو تقدم تنازلات لأنها تثق في الوسيط، ومن هنا فإن على هذا الأخير أن لا يقوم بإفشاء ما صرح له به الأطراف.

3/ المرونة

وتتجلى هذه الخاصية في غياب القيود المسطرية والقانونية، التي من شأنها الحد من فعالية الوسيط ومبادرته، حيث يبقى للأطراف اتخاذ أية مبادرة مناسبة للتفاوض، والوصول إلى حلول ودية وفق اتفاقهم، وبشكل يسمح لكل طرف باقتراح عدة حلول وتصورات لفض النزاع، إلى أن يتم الوصول إلى حل مناسب ومرض للجميع،فبدائل الدعوى العمومية  وبخلاف المحاكمة التقليدية التي تؤطرها عدة نصوص وقواعد تقلص من حرية الأطراف، تتميز بالمرونة التي تسمح بتحرك الوسيط بكل حرية، بهدف الوصول إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة، على المقاس الذي يرغبون فيه، دون أن يكون ملزما باتباع مسطرة معينة، مادام الهدف الأساسي هو حل يرضي الأطراف جميعا.

وتبرز مرونة بدائل الدعوى العمومية في إمكانية توظيفها في أي مرحلة من مراحل التقاضي، وإمكانية حل جزء من النزاع أو النزاع كله، وفي الصلاحية الممنوحة في تحديد موعد كل جلسة، وإشعار الأطراف بذلك مع إمكانية الاجتماع مع كل طرف على حدة أو بالأطراف مجتمعين، ومن بين المرونة المرتبطة ببدائل للدعوى العمومية ، إمكانية مواصلة الدعوى العمومية أمام القضاء في حالة فشلها، بحيث لا يمكن أن يواجه الأطراف بسبقيةالبت في النزاع.

والواقع أنه لا مرونة دون صرامة، ولا حرية دون مسؤولية، ذلك أن بعض المواقف تقتضي من القضاء أن يتسلح بنوع من الصرامة، وهو ما يعني تطبيق وفرض الطرق والقواعد الأخلاقية التي يضعها القانون.

4 /مشاركة الأطراف في إجراءات بدائل للدعوى العمومية

تعد هذه الخاصية من أهم ما يميز إجراءات بدائل للدعوى العمومية، ومن خلالها يتمكن الطرفان في المنازعة الجنائية، وبمساعدة وسيط، من استعادة التواصل والحوار، بهدف خلق الحلول المرضية لهما معا، وأحيانا إعادة بناء العلاقة من جديد، والحيلولة دون خلق بوادر الحقد والانتقام.

فما يميز بدائل للدعوى العمومية بالتحديد، هو أن أطراف النزاع هم من يختارون العدالة بأنفسهم، بدل الخضوع لها، فحل مشاكلهم يكون على أيديهم، وبمساعدة الوسيط طبعا، بعد الحوارات والمفاوضات التي تجمعهم، وتتيح لهم فرصة المكاشفة، والمصارحة لبعضهم البعض، وتفريغ المؤاخذات المتبادلة، ثم بعد تهدئة النفوس، التطرق إلى جوهر النزاع ومحاولة إيجاد تسوية ودية له بتدخل الوسيط.

فالمسلمة الكبرى التي تقوم عليها بدائل الدعوى العمومية بشكل عام، هي أن حل النزاع ينبغي أن يكون بصورة رئيسية، من صنع قطبي النزاع كليهما، إذ أن هدف البدائل، هو إتاحة الفرصة للخصمين لفض نزاعهما، والتمكن من التعاون على إدارته، والسيطرة عليه وحله معا، ويبقى الوسيط مجرد ميسر ييسر التواصل بين الطرفين، كي يتمكنا من التعبير عن مشاكلهما، والاستماع لبعضهما البعض، والتفاهم والتوصل إلى اتفاق ودي.

ومن خلال ما ذكر يتضح أنه لا يوجد في بدائل الدعوى العمومية  رابح أو خاسر، فالكل رابح ما دام النزاع يتم حله في إطار التراضي بين الطرفين المعنيين، ويتم التوصل لحل يرضيهما، وهو ما يعني أن طرفي النزاع سوف يحافظان على علاقتهما السابقة، ولا يكون هناك أي انقطاع لها، خلافا لتسوية النزاع أمام القضاء، والذي يترك لدى الطرفين انطباعا سيئا ولا يتقبله الطرف الخاسر للدعوى العمومية، ونستحضر بالمناسبة تلك القولة المأثورة عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال فيها: “ردوا الخصوم ليتصالحوا، فإن حكم القضاء يورث البغضاء”.

الفقرة الثانية: دور بدائل الدعوى العمومية في الحد من أزمة العدالة الجنائية

إن من أهم وأبرز سمات أزمة العدالة الجنائية هي عجز العقوبة عن تحقيق أهدفها وعلى رأسها تحقيق العدالة، إلى جانب اعتماد أجهزة العدالة والقضاء على سياسة تأجيل الجلسات تارة وحفظ الدعاوى وطول وتعقيد إجراءاتها الشكلية تارة أخرى، فولد لدى المتقاضين شعور  بعدم الرضا عن أدائها مما ألجأهم إلى البحث عن بدائل يمكنه من خلالها أن يحققوا عدالتهم عبر بدائل تبحث عن أسباب النزاع بل تمتد إلى القضاء عليها و على مخلفاتها وآثارها.

لذا ظهرت الوسائل البديلة لحل المنازعات والخلافات خارج الإطار القضائي، كنتاج لعدم فاعلية أساليب العدالة الجنائية التقليدية في حسم القضايا الجنائية العامة، فقد  كانت ممارسة الدعوى العمومية تقتضي المرور عبر مراحلها الإجرائية في الاتهام والتحقيق والمحاكمة، فهذه الوسائل البديلة بمختلف أنواعها تستهدف بالدرجة الأولى، اختصار هذه الإجراءات والمساطر القانونية أملا في تحقيق فعالية العدالة الجنائية.

وإنه لمن أهم أهداف الوسائل البديلة إصلاح الجاني وتأهيله عبر البحث عن أسباب النزاع وبذل الجهود للقضاء على مسبباته، كما تعتبر الوسائل البديلة في الواقع مقاربة عملية لفض النزاعات تتميز بقلة شكلياتها ومحدودية الخصومة فيها، وغلبة الجانب الرضائي والتعاقدي عليها، حيث تتشكل من جملة من الإجراءات المستحدثة المتميزة والمختلفة عن الإجراءات الجنائية التقليدية والمكملة لها في نفس الوقت.

والطرق البديلة لتسوية النزاعات هي منظومة فكرية، تتسع وتضيق تبعا لما يفترض أن البديل جاء ليحل محله، فنتحدث عن بدائل الدعوى العمومية، بدائل المسطرة القضائية، بدائل الحل القضائي، بدائل القانون، بدائل القضاء، بدائل العدالة، بل في المادة الجنائية بدائل تسطير المتابعة.

وتعد منظومة الطرق البديلة نظاما قانونيا تنضوي تحته العديد من الآليات التي تتقاطع وتختلف بين الأنظمة الثلاث الريادية والتي هي على التوالي النظام اللاتيني والذي تمثل فرنسا وايطاليا قطب الرحى فيه، وكذا النظام القانوني الجرماني ورائدته ألمانيا وأخيرا النظام الانجلوسكسوني ممثلا أساسا بالمملكة المتحدة، والولايات المتحدة واستراليا، ليبقى هذا النظام الأخير، الرائد والمبدع للفلسفة الجديدة للطرق البديلة من حيث النظرة للمسار التفاوضي كمرحلة حاسمة وقائمة بذاتها، من خلا آلياتها، تقنياتها وشروط القائم عليها وخصوصيا الحل الذي يتوصل إليه في إطارها.

و لقد تراكمت مجموعة من الأسباب، ساهمت في التفكير بإيجاد بدائل للدعوى العمومية أمام قصور النظام العقابي في تحقيق أهداف وغايات السياسة الجنائية لمكافحة الجريمة وردع الجناة، فقد كان الاعتقاد السائد أن الدعوى العمومية جوهر القوانين الإجرائية المختلفة، وان إقامتها هي الوسيلة التي تمنح للدولة حق إيقاع العقاب لأن هناك تلازم بين سلطة الدولة في العقاب وبين الضمانات التي يحفل بها القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية في إطار تحريك الدعوى العمومية.

 فمن جهة أولى فإن الدعوى العمومية هي الوسيلة القانونية لتقرير الحق وصولا لاستيفائه بمعونة من النيابة العامة، من خلال اللجوء إلى السلطة القضائية لضمان استيفاء الحقوق، وجاءت بدائل الدعوى العمومية لإعطاء دور اكبر لأطراف الدعوى العمومية سواء كان المتهم أو المجني عليه وبمشاركة المجتمع في إنهاء الدعوى العمومية والسيطرة على مجرياتها المعروضة أمامه.

ومن جهة ثانية تعتبر بدائل الدعوى العمومية مؤشرا على مرحلة جديدة طابعها التحول من العدالة القهرية إلى العدالة الرضائية، وفي نفس الوقت تحقيق أهداف العدالة بأقل تكلفة مما يساهم في استقرار المراكز القانونية .

وينبغي القول بأن العالم شهد حركة فقهية وتشريعية لتنظيم بدائل الدعوى العمومية لتكون أداة فاعلة ومؤثرة لتحقيق وترسيخ العدالة وصونا للحقوق وحماية للحريات، وذلك من خلال إيجاد إطار ملائم يضمن لهذه البدائل تتقنينها ثم تطبيقها، ومن الجدير ذكره بأنها تنسجم مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، التي تدعو إلى السلم والأمن والترابط المجتمعي، من خلال علاقات مبنية على العفو والتسامح والصفح والصلح، والقضاء على مسببات النزاع وتطهير أثاره.

فإذا كان بعض الباحثين يعتبرون أن المشاكل التي يعاني منها قضاء الدولة هي السبب الأساسي في اللجوء المتزايد إلى هذه البدائل، فإننا نظن أن الاهتمام بهذه الأخيرة راجع بالأساس إلى المزايا التي تتسم بها وإلى مدى اقتناع الأطراف بنجاعتها وفعاليتها في حل النزعات، وهكذا يمكن القول أن حل النزعات الجنائية باللجوء إلى بدائل الدعوى العمومية أصبح من المظاهر الحضارية لتسوية النزاع، وذلك لأن الحل عن طريق الحوار الهادف والبناء الذي توفره يدل على حضارية هذه البدائل وحضارية المجتمعات التي تعمل بها.

إن محاربة الجريمة بمختلف أشكالها كظاهرة اجتماعية تقتضي من الدولة سن سياسة جنائية محددة لضمان الأمن والسلامة والاستقرار وحق الفرد في التمتع بالحرية في إطار من المسؤولية، وهذا لا يتأتى إلا باتخاذ إجراءات قانونية للكشف عن الجريمة وعن وسائل مقاومتها للوقاية منها، ومن جهة ثانية فقد اجمع الباحثون على أن السياسة الجنائية تعتبر من المفاهيم القانونية التي تمخضت عن تفاعلات الفكر الجنائي الحديث.

و أمام عجز السياسة الجنائية التقليدية التي تتميز أساسا بطابعها الزجري في مكافحة الجريمة، و أمام تفاقم هذه الأخيرة وتعقد مظاهرها وظهور عدة علوم من بينها علم الإجرام وعلم الاجتماع وعلم النفس و التي تهتم بالأسباب المتنوعة للانحراف، أصبح من الضروري توسيع السياسة الجنائية لتضم إجراءات وقائية تربوية دون إغفال الإجراءات الزجرية .

 وقد حاول المشرع المغربي السير على نهج أغلب التشريعات المقارنة بتبنيه لعدالة تصالحية تأخذ بعين الاعتبار رغبة الأطراف في إنهاء الخصومة الجنائية بطرق حبية دون حاجة لاستصدار حكم قضائي، وهو ما يؤدي لرأب الصدع وجبر الضرر والحد من النزعات الانتقامية، وما لذلك من اثر ايجابي على تصريف القضايا وتدبير النزعات أمام القضاء وإعفائه من الانشغالات في نزعات تكلفه الكثير دون جدوى، ومن ناحية أخرى، فإن المجتمع يكتسب سواد الود والوئام بين أفراده،  حيث تفضي بدائل الدعوى العمومية إلى تهدئة النفوس وجبر الخواطر والقضاء على الحقد، وعلى اثر ذلك يستعيد الضحية اعتباره كعضو مؤثر في سير الخصومة الجنائية، كما أن المشتبه فيه يدرأ عن نفسه متاعب المحاكمة وأثارها الوخيمة .

من خلال كل ما سبق يمكن أن نتساءل: حول أفاق بدائل الدعوى العمومية في التشريع الجنائي المغربي؟

إن الإجابة عن هذا السؤال المركزي السابق، تقتضى منا الخوض في أسباب أزمة العدالة بالمغرب وذلك من خلال الاعتماد على الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل في ما يخص نشاط محاكم المملكة خلال السنوات القضائية الماضية.

هناك اضطراد بين ظاهرة أزمة العدالة الجنائية مع تضخم القضايا المطروحة أمام القضاء المغربي، الشيء الذي أضحى يهدد بعض المحاكم بالشلل، وحتى لا نكون مبالغين أو بعيدين عن الواقع، فالإحصائيات المنجز  من طرف وزارة العدل  تؤكد ضخامة القضايا المطروحة على مختلف المحاكم المغربية برسم السنة القضائية الأخيرة.

فالمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء مثلا بلغت القضايا المحكومة 6730 قضية، في حين بلغ المخلف 1992  قضية برسم السنة القضائية 2019، في حين بلغ المحكوم بدائرة القضائية التجارية باكادير 9159 قضية، في حين بلغ المخلف 934 برسم نفس السنة القضائية 2019، مما جعل مجموع القضايا الرائجة على هذه الدائرة القضائية يصل إلى  10093 قضية.

كما وصل مجموع القضايا المسجلة بالدائرة القضائية الدار البيضاء برسم السنة القضائية 2016، إلى 464231  قضية تم البت فيها في 482343 قضية، مع العلم أن عدد القضايا الرائجة خلال نفس السنة وصل إلى عدد 542851 قضية، لتصل نسبة المحكوم من الرائج بهذه الدائرة القضائية%  88.85، فيما وصلت هذه النسبة في الدائرة القضائية أسفي نسبة%  83.59.

يمكن القول حسب المعطيات أعلاه المنجزة من طرف وزارة العدل برسم السنوات  القضائية 2014 و2015 و2016، ومن خلال القضايا المحكومة ومقارنتها بالقضايا الرائجة والمخلفة برسم السنة القضائية 2013، بأن هناك صعوبة كبيرة لاحتواء المخلف، وبالتالي إرجاعه إلي سنة 2016 التي عرفت تسجيل قضايا بنفس العدد أو أكثر، مما يعني أن معالجة القضايا المخلفة يستلزم ما يقرب السنتين للقضاء على المخلف.

وتجدر الإشارة إلى أن عدد السادة القضاة خلال بداية سنة  2014، كان قد بلغ 4065 قاضيا بعد أن تم تعين الملحقين القضائيين المنتمين للفوج 38 في السلك القضائي، غير انه نظرا لإحالة مجموعة من القضاة إلى التقاعد ولوفاة بعضهم ولصدور عقوبة العزل في حق البعض، فقد انخفض عدد السادة القضاة إلى 4001 إلى حدود سنة 2014، بزيادة 96 قاضي مقارنة مع السنة القضائية 2013 التي بلغ فيها عدد السادة القضاة 3905، ليصل عدد السادة القضاة في برسم السنة القضائية 2015 إلى 4166 قاضيا.

ومن جهة أخرى يبلغ عدد موظفي هيئة كتابة الضبط برسم السنة القضائية 2015 ما مجموعه 14941 موظفا وموظفة،منهم 7370 موظفة أي بنسبة%  49.35 ويتوزع الموظفون على الدوائر القضائية للمملكة، وقد سجل عدد الموظفين خلال سنوات الأخيرة تطور نسبي، حيث في سنة 2009 لم يكن يتعدى عددهم 13296 موظفا في حين وصل هذا العدد 14822موظفا في سنة 2014، أي بزيادة تقدر بنسبة%  15، ليصل عدد موظفي كتابة الضبط في سنة القضائية 2015 إلى عدد 14941.

نتيجة لعدم قدرة آليات العدالة الجنائية على محاربة الجريمة أو الوقاية منها من جهة، وعجزها عن مسايرة هذا المد الإجرامي من جهة ثانية بسبب غياب سياسة عقابية دقيقة و ممنهجة  تتناسب مع الواقع الجديد، فإن  إدارة العدالة الجنائية أصبحت  حاليا  تعتمد على عقوبة الحبس القصيرة المدة،  فإذا كانت هذه العقوبة غير صالحة، فإن نظام العدالة الجنائية كله، ليس له قيمة، بل ان هذه العقوبات هادمة للنظام القانوني فترتب عن ذلك البحث عن بدائل للعقوبات ليس فقط في القانون الجنائي، بل في قوانين أخرى، وموازاة مع ذلك أصبح ضروري  البحث عن آليات العدالة التصالحية من اجل تجاوز أزمة العدالة الجنائية في النظام الجنائي المغربي.

و لا شك في أن دعوة المشرع المغربي إلى الأخذ بإجراءات بدائل الدعوى العمومية ، يحل محل الدعوى العمومية لفض المنازعات الجنائية، قد يبدو للوهلة الأولى غير مقبول، غير أن الأمر يستوجب النظر إلى هذه الوسيلة بعين فاحصة، إذ هنا من النتائج والتوصيات ما يستدعي ذلك، بالإضافة إلى المميزات التي اشرنا إليها سابقا والتي تميز مؤسسة بدائل الدعوى العمومية .

وهكذا، فإن تحقيق تلك الغايات لم يتوصل إليها المشرع الجنائي المغربي، فالممارسة العملية أبانت عن عجز مسطرة الصلح الزجري عن مواكبة الظاهرة الإجرامية والحد من الجرائم البسيطة، وبالتالي فشلها في تحقيق الغايات والأهداف التي سطرت لأجلها.

ونظرا لأهمية بدائل الدعوى العمومية كحل لتسوية النزعات الجنائية، فقد عرفت انتشارا واسعا في العديد من الدول، وأصبح ينظر إليها باعتبارها من بين أهم المعايير التي تعتمد في تقييم مدى فعالية الأنظمة القانونية والقضائية المعاصرة، نظرا لما توفره من وسائل وإمكانيات لتسهيل الولوج إلى العدالة المرغوب فيها.

لذلك كان لابد من البحث عن أنظمة قانونية مستحدثة تعالج هذه القضايا، ومن هنا أضحت الأساليب غير القضائية لإدارة الدعوى العمومية ضرورة ملحة لمواجهة البطء في الإجراءات الجنائية التقليدية بهدف اختصار تلك الإجراءات، وكان من أبرز معالم التطور العلمي الجنائي ضرورة إيجاد بدائل للدعوى العمومية للنظر في مكافحة الإجرام بغير الإجراءات الجنائية التقليدية.

ألهمتنا مختلف النتائج التي استعرضناها آنفا، توصيات واقتراحات، نوجهها إلى المسؤولين عن السياسة التشريعية ببلادنا، لعلها تساهم في إعطاء هذه البدائل الدور الذي يجب أن تؤديه كآلية قانونية حديثة في السياسة الجنائية المعاصرة، وذلك على الشكل التالي:

نقترح ضرورة توعية المواطنين بمزايا سلوك بدائل الدعوى العمومية ومنها الصلح الزجري والوساطة الجنائية، ذلك أن خضوع المواطنين المخاطبين بالقاعدة القانونية واقتناعهم بفاعليتها من أسباب نجاح أية قاعدة قانونية، لذلك من الواجب القيام بحملات واسعة النطاق ترمي إلي بعث الثقة في نفوس المغاربة بمزايا وأهمية مسطرة الصلح الزجري، وكذا تحسيس الرأي العام بأهمية العدالة التصالحية، لأن تطوير العدالة الجنائية لا يتحقق بدون إشراك جميع الفاعلين فيها.

نقترح إعادة النظر في الإرث التشريعي الجنائي بصفة عامة عن طريق تنظيم وإقرار مؤسسة الوساطة الجنائية بصفة خاصة.

تدعيم الجهاز القضائي بالكفاءات الكافية وتأهيلها للقيام بدور الصلح على أكمل وجه، عن طريق عقد ندوات وتنظيم دورات تكوينية للقضاة، خاصة منهم قضاة النيابة العامة، لتدارس كيفية تفعيل هذه المستجدات، والوقوف على الصعوبات المثارة بهذا الخصوص.

وضع الثقة في هذين البديلين وتهيئة كل الوسائل المادية والبشرية وتوفير الآليات القانونية الكفيلة لإنجاحهما.

ضرورة التنصيص على نظام الوساطة الجنائية في التشريع الجنائي المغربي لما لهذا النظام من مزايا مهمة لاشك أنها سوف تساهم التخفيف من أزمة العدالة الجنائية المغربية.

الاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في تنظيم بدائل الدعوى العمومية في تشريعاتها الجنائية، حيث عرفت العديد من التشريعات تبني هذه البدائل.

مشاركة