بقلم: محمد بوران | باحث في سلك الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية – 30 يوليوز 2025
في خطاب سياسي بالغ الرمزية ألقاه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الـسادسة والعشرون لعيد العرش المجيد، فعبره تمت تزكية التوجه الذي رسمه صاحب الجلالة في مسير حكمه منذ أول خطاب؛ خطابات تتسم دائما بمحاولة إيجاد الحلول للإشكاليات والتساؤلات التي يعبر عنها المواطن المغربي، إذ يلاحظ من خلال هذا الأخير تجاوز ثنائية التسيير والتدبير نحو رؤية استراتيجية مؤسسة على التَّمْكِين والمشاركة والتوقع، فالخطاب لا يكتفي بالتشخيص أو التوجيه، بل يقدم وثيقة تأطيرية لنمط جديد من الدولة المغربية، دولة “مِنَصَّة”، تتفاعل بذكاء مع محيطها، وتربط شرعيتها بقدرتها على الإنجاز والاستباق.
عدالة مجالية بمقاربة هندسية متعددة المستويات
في صلب الخطاب، عادت العدالة المجالية إلى الواجهة، لا كشعار إنشائي، بل كأجندة هندسية تتوزع عبر ثلاث مستويات: وطني، وجهوي، ومحلي، فمن خلال هذا التصور، يتم ربط السياسات الكبرى بالمشاريع الترابية، وتفعيل الجهوية المتقدمة كأداة لاتخاذ القرار، مع تثمين خصوصيات المناطق لإنتاج حلول مرنة وملائمة، وما يميز هذا التوجه كذلك هو الانتقال من سياسة “رد الفعل” إلى سياسة “التدبير الاستباقي” خصوصا في ملف الماء، ومن الاستثمار القطاعي إلى “التأهيل الترابي المندمج”، في مقاربة تنهي تجزئة التدخلات العمومية بهدف واضح هو تقليص الفقر متعدد الأبعاد عبر ايجاد حلول قابلة للقياس والمتابعة.
تحول اقتصادي بأبعاد جيوسياسية عميقة
الخطاب لم يغفل الإطار الاقتصادي، بل قدم خريطة طريق متعددة الأبعاد: التصنيع الذكي، والسيادة الاستراتيجية، والتكامل الإقليمي، والاقتصاد الدائري حيث أشار جلالة الملك بشكل رقمي احصائي موثوق إلى قفزة في الصادرات الصناعية، والتوسع في الطاقات المتجددة، ومشاريع الأمن الغذائي، في إطار رؤية تجعل من المغرب مركزا إقليميا في سلاسل التَّوْريد، وبوابة للأسواق الإفريقية ،وهذا ليس مجرد سرد لإنجازات، بل تموقع استراتيجي يعيد تحديد علاقة المغرب بمحيطه الجهوي والدولي، ويؤسس لاقتصاد مقاوم، وأخضر، ومتجذر في منطق الاستقلالية.
الديمقراطية التشاركية: بناء تدريجي ومؤسساتي
في بعده السياسي، قدم الخطاب خارطة إصلاحية دقيقة تمهد لتحديث النظام الانتخابي في أفق 2025 وهو مشروع لا ينبني على القطيعة، بل على الانتقال المؤسسي المتدرج، من خلال مشاورات شاملة، وربط الاستحقاقات السياسية بالنموذج التنموي الجديد، والأهم هو هذا التصور الجديد للشرعية، الذي لم يعد قائما فقط على القواعد الدستورية، بل أيضا على “الشرعية التنموية”، أي على قدرة الدولة على تحقيق أثر ملموس على حياة المواطنين.
الدبلوماسية المغربية: الإنسان أولا
الخطاب الملكي قدم تصورا جديدا للدبلوماسية، يقوم على ثلاثية: القيم، والاقتصاد، والعلم، فحسب جلالته لم تعد العلاقات الخارجية محكومة بمنطق التنافس والصراع، بل أصبحت أداة لبناء مصير مشترك، سواء عبر تصدير الخبرات المغربية في الطاقة والماء، أو من خلال مرافعة إنسانية من أجل أفريقيا موحدة، تتجاوز منطق الحدود والمصالح الضيقة.
الإدارة الاستباقية: من التتبع إلى التخطيط الهيكلي
نموذج “الرباعية الذكية” الذي ورد ضمنيا في الخطاب، يجمع بين الاستشعار المبكر، والتشخيص، والتصميم الترابي المخصص، والقياس الرقمي الدقيق، وهذه منهجية حديثة، تفعل نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 وتحولها إلى أدوات للتخطيط الترابي، خصوصا في العالم القروي الذي استأثر ويستأثر باهتمام خاص لدى جلالة الملك.
القيادة التَّمْكِينية: فلسفة الحكم الجديدة
التحول الأبرز في الخطاب هو الانتقال من دور الدولة الراعية إلى الدولة المُمَكِّنة التي لم يعد فيها المواطن مجرد متلق للخدمة، بل شريك في التنمية يتم خلالها تجاوز منطق الدعم المالي المباشر إلى دعم المبادرة المحلية، ومن الخدمات الصحية إلى مقاربة تحفظ كرامة الإنسان وتكرس الحق في الصحة.
نحو “دولة مِنَصَّة”: شرعية الأداء بدل شرعية الوعود
يمكن تلخيص فلسفة الخطاب الملكي في مفهوم “الدولة المِنَصَّة” – دولة ذكية، تضمن الوصل بين الحاجات والمبادرات، تكيف سياساتها بناء على البيانات، وتفتح أبوابها للابتكار العمومي والخاص، وجلالة الملك يرنو إلى دولة تجمع بين الكفاءة من خلال تحقيق نتائج قابلة للقياس والاستباقية عبر المعالجة المبكرة للأزمات والشراكة بإدماج المواطن والفاعلين في القرار.
وختاما يمكننا القول إن مسير الخطابات الملكية منذ اعتلاء جلالة الملك للعرش تنحو الى ألا تكون مجرد إعلانات سياسية أو خطابات حماسية وجماهيرية، بل هي في الواقع مانيفستوهات تأسيسية لنموذج مغربي متفرد للحكم، يراهن على الإنسان، ويؤمن بأن التنمية لا تمنح بل تبنى.

