في أجواء رمضانية مفعمة بالإيمان والتآخي، احتضنت مدينة الدار البيضاء، مساء الجمعة 28 مارس 2025، الموافق لـ 27 رمضان 1446، حفل الإفطار الرمضاني الذي نظمته الودادية الحسنية للقضاة، بحضور ثلة من القضاة والقاضيات من مختلف محاكم المملكة.
وقد شكل هذا اللقاء مناسبة متميزة للتأكيد على عمق الروابط التي تجمع الجسم القضائي، واستحضار القيم التي تؤسس لهوية القضاة المهنية والإنسانية، كما كان فرصة لإعادة بعث دينامية المكتب الجهوي للودادية بالدار البيضاء، بعد فترة من الركود.
وفي كلمة مؤثرة ألقاها بالمناسبة، عبّر السيد رئيس الودادية الحسنية للقضاة عن سعادته باللقاء، مبرزًا رمزية الاجتماع في شهر رمضان الفضيل، وما يحمله من معاني التراحم والمغفرة والتواصل، مؤكدًا أن هذا الإفطار ليس مجرد لقاء اجتماعي، بل هو تجسيد لرغبة حقيقية في إعادة إشعاع العمل الجمعوي القضائي بالجهة، كقاطرة للنشاط القضائي المسؤول.
حيث جاءت كلمته كالتالي:
السيدات والسادة القضاة الأجلاء،
يشرفني أن أقف اليوم أمامكم في هذا اللقاء المبارك، ونحن نعيش أجواء شهر رمضان الفضيل، شهر الرحمة والمغفرة والتآزر، لنحيي معًا تقليدًا أصيلًا يعكس روح التضامن والتآخي التي طبعت مسيرة قضاة المملكة عبر العصور.
واليوم… تُحَطُّ رحالنا في جهة الدار البيضاء، هذه الحاضرة التي كانت، وستظل، قلبًا نابضًا بالحركة، وعنوانًا للتجديد والاستمرارية. واجتماعنا، اليوم هنا، على مائدة الإفطار الرمضاني ليس مجرد احتفاء بشهر الصيام، بل هو أيضًا احتفاء بإحياء روح المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بالدار البيضاء، الذي كاد أن يخبُو نوره، لولا أن قيّض الله له من يعيد إليه إشعاعه ويستنهض دوره الرائد.
لقد افتقدنا طويلاً إلى ذلك الحراك القضائي الذي اعتدنا عليه في المكتب الجهوي بالدار البيضاء، كدنا نفقد وهجه للأبد، وكدنا ننسى تلك الدينامية التي جعلت منه منارة مشرقة، تجمع القضاة على قيم الوحدة والتعاون والالتزام. غير أن الألطاف الإلهية شاءت أن نكون اليوم في مقام الاحتفال، لا على مستوى اللقاء الرمضاني فحسب، بل احتفالًا مزدوجًا بعودة المكتب إلى سابق تألقه، مستعيدًا موقعه الطبيعي كقاطرة للعمل الجمعوي القضائي الجاد والملتزم.
وأقف اليوم أمامكم، لا بصفتي رئيسًا للمكتب المركزي للودادية الحسنية للقضاة فحسب، بل بصفتي قاضيًا تشرّب من هذه المدينة كل معاني الانتماء والوفاء. أخاطبكم، لا من منطلق الناقد المتجرد، وإنما من موقع المحب الحريص، الغيور على هذا البيت القضائي الذي نشأت في رحابه، وارتبطت به بوشائج المودة والاحترام. الدار البيضاء بالنسبة لي ليست مجرد مدينة، بل هي حضن دافئ، هي الأم التي مهما أغدقت عطاءً، ظلّ شعورها بالنقص قائمًا، تمامًا كما يظلّ الرضيع متعلقًا بأمه، يطلب منها مزيدًا من الحنان والعطاء.
وهكذا، فإن عتابي اليوم ليس إلا تعبيرًا عن غيرة صادقة، فبين أروقة محاكم هذه المدينة قضيت عقودًا من الزمن، تدرجت خلالها في مختلف المهام، وعشت مع زملائي لحظات من المجد والتحدي، وكنت شاهدًا على تجليات أسمى معاني الوفاء لمهنة القضاء والالتزام بمُثُلها العليا. ومن الطبيعي، والحال هذه، أن أتمنى لمدينتي ولمكتبها الجهوي، ما تستحقه من إشعاع، وأن أتطلع إلى أنشطتها كما يتطلع العَطِشُ إلى مورد الماء، لأنها بالنسبة لي ليست مجرد أنشطة، بل هي نبض الحياة، ووهج الذاكرة، وعطر الأيام التي شكلت هويتي المهنية والإنسانية.
أيها القضاة الأكارم،
وأنا أتحدث عن الدار البيضاء، في رحابها وإلى مكتبها الجهوي، استحضرتْ ذاكرتي مشاهد من الماضي، ووجدت نفسي مسافرًا عبر الزمن إلى تلك الحقبة التي عايشها جيلنا من القضاة، حيث كانت قيم التضامن والتآزر والتآخي تشكل حجر الزاوية في علاقتنا المهنية والإنسانية. كانت تلك المرحلة عنوانًا لوحدة لا تنفصم عُراها، ولَحْمَةٌ يصعب أن يتسلل إليها التفرق أو التباعد.
ومن هذا المنطلق، فإن مسؤوليتنا اليوم تحتم علينا أن نقف وقفة تأمل صادقة، نتساءل خلالها بكل موضوعية ووعي: أين نحن اليوم من تلك الروح التي كانت تشكل جوهر العمل القضائي؟ أين اختفت تلك القيم التي صاغت علاقاتنا، وربطت بيننا وبين أساتذتنا ومشايخنا الذين علمونا وأرشدونا؟ لقد حلت القطيعة حيث كان الوصل، وحل التباعد حيث كان التقارب، وكادت العزلة أن تفرض نفسها على فضاءاتنا، التي لطالما زخرت بالمودة والتلاحم.
إننا نشهد، بكل أسف، كيف أن إكراهات الحياة المعاصرة قد نخرت بعضًا من أسس هذا البناء، وتسللت إلى منظومتنا القيمية، حتى كادت أن تترك الساحة خاوية إلا من أطياف الماضي الذي نتحسر عليه. غير أن القضاء لم يكن يومًا مجرد مهنة أو وظيفة تؤدى بحدودها الإدارية، بل هو رسالة سامية، شرفها رفيع ومسؤولياتها جسيمة، لا تكتمل عظمتها إلا بتآزر أهلها، وتلاحمهم، وتقاسمهم لهمومها وتحدياتها، كما يتقاسمون لحظات المجد والنجاح.
ولذلك، فإن إحياء روح التضامن بين القضاة ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة تفرضها طبيعة رسالتنا، وحتمية تمليها متطلبات الحفاظ على المهنة وصون كرامتها. فبدون هذا التلاحم، تضعف الأواصر، وتفتر العزائم، ويتسلل الفتور إلى أقدس المؤسسات. وإننا اليوم مطالبون، أكثر من أي وقت مضى، باستعادة ذلك الألق، وإحياء تلك القيم، لأن قوة القضاء ليست في نصوصه فقط، بل في وحدة رجاله ونسائه، وفي إيمانهم بأن العمل القضائي ليس مجرد ممارسة مهنية، بل هو التزام أخلاقي وقيمي تتوارثه الأجيال.
أيها القضاة المحترمون،
إن مسؤوليتنا اليوم تتجاوز حدود تسيير الملفات وإدارة الجلسات، إلى إعادة إحياء تقاليدنا المهنية الراسخة، وترسيخ قيم التراحم والتآخي التي كانت منارة تهدي القاضي في مسيرته. علينا أن نعيد الاعتبار للأعراف القضائية التي أرست دعائم هذه المهنة النبيلة، وأن نصون تلك الروابط التي ميزت علاقتنا عبر الأجيال. فكما نطالب الآخرين باحترام القضاء، علينا أن نحترم أنفسنا أولًا، ونحترم تقاليدنا، ونحافظ على روح المهنة التي كادت أن تبهت تحت وطأة الضغوطات اليومية.
إن التراحم والتعاون بين القضاة ليس ترفًا، بل هو ضرورة تفرضها أخلاقيات المهنة، وهو عنصر أساسي في الحفاظ على هيبة القضاء وسمو رسالته. إن قوة القضاء ليست فقط في استقلاله، بل أيضًا في تماسك أبنائه ووحدتهم. فليكن هذا الجمع الكريم فاتحة خير، نعيد فيها ترميم ما تصدع، ونرسخ فيها معاني التلاحم والتآخي، ولتكن عودتنا إلى التواصل والتضامن عودة دائمة، لا ظرفية عابرة.
أيها السادة القضاة،
إننا اليوم أمام مسؤولية تاريخية: إما أن نكون أوفياء لتقاليدنا وأعرافنا، متشبثين برسالتنا النبيلة، مترابطين كالبنيان المرصوص، أو أن نسمح لعوامل الفرقة بأن تنخر جسدنا وتضعف مواقفنا. وأنا على يقين بأن فيكم من الحكمة والإخلاص ما يكفي لاختيار الطريق الصحيح، طريق الوحدة والتضامن، والسمو فوق كل الاعتبارات التي قد تفرق ولا تجمع.
وفي الختام، أجدد ترحيبي بكم جميعًا، وأتقدم بجزيل الشكر إلى المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بالدار البيضاء على تنظيم هذا الحفل المبارك، الذي لم يجمعنا فقط على مائدة الإفطار، بل جمعنا على مائدة المحبة والإخاء، راجيًا من الله العلي القدير أن يديم علينا نعمة الاجتماع على الخير، وأن يحفظ هذا الصرح القضائي شامخًا موحدًا، وأن يوفقنا جميعًا لما فيه خير القضاء وخير الوطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ويُذكر أن هذا الإفطار الرمضاني يندرج ضمن سلسلة من اللقاءات التي تسعى الودادية الحسنية للقضاة من خلالها إلى ترسيخ تقاليد التضامن المهني، وتعزيز روح الأسرة القضائية الواحدة، بما يخدم مصالح العدالة ويصون مكانة القضاء في المجتمع.