بقلم عزيز بنحريميدة
ينتشر الحديث عن ظاهرة الاستقالة من العمل في زمن أصبحت فيه ضغوط الحياة العملية لا تُحتمل،والتخلي عن الأحلام والأماني، وكأنها مرتين في نفس القرار يحملان بين طياتهما مزيجًا من اليأس والطموح ، ففي كل زاوية من زوايا العمل، نجد أشخاصًا يجدون أنفسهم مضطرين لترك وظائفهم إما بقوة الظروف أو بدافع رغبتهم في التحرر من ضغوط لا تحتمل، مما يدفعهم إلى إعادة النظر في أحلام كانوا يعتزون بها يوماً ما.
يواجه الكثير من الموظفين بيئات عمل خانقة يكتنفها التوتر المستمر و الإحساس بالظلم الإداري والتمييز بين الزملاء، مما يجعل البقاء في مثل هذه الظروف عبئًا نفسيًا وجسديًا،وفي خضم هذه الضغوطات القاسية، تصبح الاستقالة بمثابة ملاذ يحول دون المزيد من التدهور الشخصي، لكن في الوقت نفسه تُفقد النفس تلك اللمسة من التفاؤل التي كانت تغذي الأحلام والأماني. إذ لا يقتصر الأمر على الانسحاب من الوظيفة فحسب، بل ينتهي به المطاف إلى التخلي عن طموحات كان يراها في يوم من الأيام سبيلًا لتحقيق الذات والارتقاء بالمستقبل.
ومن ناحية أخرى، هناك من يتخذ قرار الاستقالة عن العمل بإرادته الحرة، مدفوعًا برغبة في البحث عن مسارات جديدة تتيح له فرصة استعادة السيطرة على حياته، ومواجهة التحديات من زاوية مختلفة. إلا أن هذا القرار، وإن بدا في ظاهر الأمر خطوة نحو الحرية، يحمل في طياته في بعض الأحيان تنازلاً عن أحلام وأماني كانت بمثابة بوصلة تحدد اتجاهاته في الحياة. فقد يجد الفرد نفسه مضطرًا إلىى الاختيار بين الاستقرار المالي المؤقت أو المضي قدمًا نحو تحقيق تلك الأحلام التي طالما رافقته، في مواجهة واقع قاسٍ لا يرحم من يخترق جدرانه الثابتة.
إن التحول من حالة الانصياع للضغوط إلى اتخاذ قرار الاستقالة يمثل صراعًا داخليًا يتخلله مزيج من الإحباط والرجاء. فبينما يشعر البعض بالفشل بعد تركهم لوظائفهم دون تحقيق ما كانوا يصبو إليه من نجاحات، يرى آخرون في هذا القرار فرصة لإعادة بناء حياتهم على أسس جديدة. وقد تترك التجربة أثرًا نفسيًا عميقًا، حيث يواجه المرء حقيقة أن التخلي عن الوظيفة ليس مجرد قرار مهني بل هو أيضاً فراق عن أحلام كانت تبدو يومًا ما منارة للأمل، وانعكاس لما فرضته عليه مسؤوليات الحياة اليومية والضغوط المستمرة.
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المغرب، أصبحت قصص الاستقالة والتخلي عن الأحلام ظاهرة تتكرر في مختلف القطاعات، مما يدعو إلى تساؤلات حول جودة بيئات العمل الحالية ومدى دعمها للفرد في تحقيق طموحاته. إذ يبدو أن النظام المتبع في الكثير من المؤسسات يميل إلى فرض ضغوط تفقد الموظف رغبته في الإبداع والتفكير خارج الإطار التقليدي، مما يؤدي إلى إضعاف الروح الطموحة والحس الإنساني القائم على الأمل بالمستقبل. وقد أدى ذلك إلى خلق حالة من الإحباط الجماعي، حيث تصبح الاستقالة حل مؤقت للتخلص من وطأة الضغوط، في حين يُستبدل الحلم بحقيقة مريرة تكشف عن حدود الإمكانيات في ظل الظروف الراهنة.
ومن هنا، لا بد من إعادة النظر في السياسات المؤسسية والثقافة المهنية التي تُهيمن على أماكن العمل، بحيث تُستعاد الثقة بين الموظف ورؤسائه وتُستعاد معاني الطموح والأمل. فمن الضروري أن يجد الفرد في مكان عمله بيئة تشجعه على الابتكار والنمو، وأن تكون الأحلام والأماني جزءًا من رؤية المؤسسة ورسالتها. إن التوازن بين المتطلبات العملية والطموحات الشخصية ليس حلمًا بعيد المنال، بل هو مطلب أساسي لتحقيق النجاح المشترك والارتقاء بالمجتمعات.
في نهاية المطاف، يبقى قرار الاستقالة والتخلي عن الأحلام نتيجة لعوامل متعددة تتداخل فيها دوافع داخلية وضغوط خارجية لا مفر منها. وبينما ينشد البعض التحرر من قيود الروتين اليومي، يواجه آخرون واقعًا قاسيًا يُجبرهم على اتخاذ خطوات لا يرغبون فيها حقًا. ورغم أن هذه القرارات قد تبدو نهاية لفصل من حياتهم، إلا أنها تحمل في طياتها فرصة لبداية جديدة، إذا ما ترافقت مع تخطيط واعٍ وإصرار على استعادة الأحلام وإعادة إشعال شعلة الطموح من جديد في عالم يتغير بسرعة.