الرئيسية غير مصنف “ثورة هادئة في محاكم البيضاء: القضاء يستعيد هيبته ويطرد السماسرة و النصابين”

“ثورة هادئة في محاكم البيضاء: القضاء يستعيد هيبته ويطرد السماسرة و النصابين”

afd14319 2fcf 43d9 8387 5e43562dc777
كتبه كتب في 28 مارس، 2025 - 10:43 مساءً

بقلم عزيز بنحريميدة

شهدت محاكم الدائرة الاستئنافية بالدار البيضاء تحوّلاً لافتاً في أدائها خلال السنوات القليلة الماضية، بعدما استطاعت أن تتغلب على أعطاب بنيوية وتنظيمية كانت تشلّ حركتها لعقود، وتُؤثر سلباً على صورة العدالة في أعين المتقاضين والرأي العام. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة مجهود جماعي، ورؤية استراتيجية قادها مسؤولون قضائيون وإداريون أبانوا عن وعي كبير بحجم التحديات وضرورة الإصلاح العميق من الداخل.

من أبرز التحولات التي عرفتها هذه الدائرة، القضاء شبه التام على ظاهرة السماسرة والمتطفلين على مرفق العدالة، والذين طالما شوّهوا سمعة المحاكم وأساءوا للثقة المفترضة بين المواطنين والقضاء. فقد تم اعتماد مقاربة صارمة في التعاطي مع هذه الظاهرة، قوامها المراقبة الدقيقة، والصرامة في اتخاذ الإجراءات، إلى جانب تحسيس المتقاضين بحقوقهم وآليات التواصل الرسمية داخل المحكمة. وبذلك، تقلصت حالات النصب والاحتيال التي كانت تتم خارج قاعات الجلسات، لكنها تترك أثرها العميق في نفوس المتقاضين.

على مستوى الأحكام القضائية، بات من الملموس أن جودة القرارات الصادرة عن مختلف الغرف ارتفعت بشكل ملحوظ، سواء من حيث تعليل الأحكام أو التزامها بالسوابق القضائية والاجتهادات الحديثة، أو حتى من حيث ضبط المساطر واحترام الآجال القانونية. ولم يعد المتقاضون ينتظرون لسنوات من أجل الحصول على حكم، بل أصبحت الأجال أكثر انضباطاً ومعقولة، ما أعاد الثقة بشكل تدريجي في نجاعة الجهاز القضائي وقدرته على تحقيق الإنصاف.

هذه الدينامية الإيجابية تعود بالأساس إلى مثابرة القضاة ونواب وكيل الملك، والدفع بالقضاة الشباب لترأس الجلسات والذين أبانوا عن مهنية عالية وتفانٍ في أداء مهامهم. كما أن استراتيجية التسيير التي اعتمدها المسؤولون القضائيون على مستوى الاستئناف والمحاكم الابتدائية التابعة لها، ساهمت في إعادة هيكلة طريقة العمل، وتبسيط الإجراءات، والاستفادة من الرقمنة لتيسير التواصل وتسريع البت في القضايا.

شكّلت الدائرة الاستئنافية بالدار البيضاء نموذجاً حياً لنجاح تنزيل مبادئ الحكامة القضائية، بفضل القيادة الحكيمة والمسؤولة لمسؤوليها القضائيين، الذين تمكنوا من تحويل التحديات المزمنة إلى فرص إصلاح حقيقي. فقد لعب هؤلاء المسؤولون دوراً محورياً في تفعيل مخطط “العدالة للجميع”، عبر مقاربة شاملة ترتكز على الاستباق، والصرامة في التسيير، والانفتاح على متطلبات المتقاضين، مع الحرص على تعزيز الثقة في المؤسسة القضائية.

كما كان لأسلوب الحكامة المعتمد أثر بالغ في تصحيح أعطاب بنيوية ظلت تؤرق المتقاضين لعقود، إذ جرى الحرص على تنظيم العمل الداخلي، وضبط الآجال، وتكريس مبدأ الشفافية، سواء في التعاطي مع الملفات أو في التواصل مع الرأي العام والمرتفقين. واستطاع المسؤولون القضائيون، من خلال إشرافهم المباشر ومتابعتهم الدقيقة، خلق دينامية جديدة داخل مختلف مكونات المحاكم، تقوم على التحفيز، الانضباط، وتوزيع المسؤوليات بما يضمن المردودية والنجاعة.

حيث تميّزت هذه المرحلة بإرادة واضحة لتقريب العدالة من المواطنين، ليس فقط على مستوى تبسيط الإجراءات، بل كذلك عبر العمل على رقمنة عدد من الخدمات، وتمكين المتقاضين من تتبع ملفاتهم دون عناء، وهو ما ساهم في تخفيف الضغط عن مرافق المحاكم، وتحسين جودة الخدمة القضائية. وتجلّى دور الحكمة القضائية هنا، في التوفيق بين ضرورة تسريع وتيرة العمل، والحفاظ على جودة الأحكام والقرارات، التي باتت تصدر بمعايير أكثر عدلاً وإنصافاً.

وإلى جانب ذلك، لم تغفل القيادة القضائية بالبيضاء أهمية محاربة الظواهر المشينة التي ظلت لسنوات تسيء لصورة العدالة، من قبيل السمسرة والنصب على المتقاضين. فتمت محاصرة هذه الظواهر بحزم، وتكريس ثقافة جديدة داخل أروقة المحاكم، قوامها الشفافية، النزاهة، والصرامة في التصدي لكل من تسول له نفسه المساس بحرمة القضاء وهيبته.

ولأن الإصلاح لا يمكن أن يكتمل دون إشراك كل الفاعلين، فقد حرص المسؤولون على تعزيز الانفتاح على هيئات المحامين، وكتّاب الضبط، والخبراء، وباقي المتدخلين في منظومة العدالة، في أفق خلق توازن وتكامل يجعل من المحاكم فضاءً حقيقياً لتجسيد مبدأ العدالة للجميع.

إن ما تحقق اليوم داخل الدائرة الاستئنافية بالدار البيضاء لم يكن ليتحقق لولا حكمة مسؤوليها، ورؤيتهم الواقعية، وحرصهم الصادق على الرقي بأداء القضاء ليكون في مستوى تطلعات المواطنين، وفي انسجام تام مع روح الدستور المغربي، الذي يجعل من العدل أساساً للحكم وركيزةً لدولة المؤسسات.

في المحصلة، فإن محاكم الدائرة الاستئنافية بالدار البيضاء تقدم اليوم نموذجاً في إمكانية الإصلاح الداخلي، حين تتوفر الإرادة والعزيمة، وحين يُمنح للقاضي والإطار الإداري المجال لممارسة مهامه في مناخ من المسؤولية والمحاسبة. هذا المسار، الذي لا يزال في طور التراكم والتعزيز، يمثل بارقة أمل في مسار بناء عدالة ناجعة، مستقلة، وفعالة، تليق بثقة المواطنين وتطلعاتهم لدولة الحق والقانون.

مشاركة