الرئيسية آراء وأقلام الكائن السايبري ..الإنسان في السردية الجديدة..

الكائن السايبري ..الإنسان في السردية الجديدة..

IMG 20250627 WA0074
كتبه كتب في 27 يونيو، 2025 - 5:59 مساءً

زينب الجعنين _باحثة في قضايا الطفولة والشباب

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم المعاصر، يظهر الإنسان في السردية الجديدة ككائن “سايبري”، يخضع بشكل متزايد لتأثير البنى المعلوماتية الحديثة والتقنيات الرقمية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. في هذا السياق، لم يعد الوجود خارج التطبيقات والمنظومات الرقمية مجرد خيار، بل أصبح بمثابة تهميش ذاتي وخروج من النسق الاجتماعي والثقافي السائد.

وقد أفرز هذا الواقع نمطاً جديداً من النخب، يمكن تسميتهم بـ”الأعيان الرقميين” أو “النخب الرقمية”. هؤلاء يشكلون طبقة جديدة تتمتع برأسمال رمزي يتمثل في عدد المتابعين وحجم التأثير، فضلاً عن رأسمال مادي يرتبط بالأرباح المتولدة عن حضورهم الرقمي. هذه النخبة لا تزاحم فقط النخب التقليدية المثقفة، بل تعيد تعريف مفاهيم السلطة الرمزية والاجتماعية في ظل منطق “البوز” (الضجة الإعلامية) وثقافة الفضائح.

لقد أصبح حضور هؤلاء الأعيان الرقميين طاغياً، يتسم بالحضور المستمر والمنظور البصري المكثف، حتى أضحوا أحد المصادر الأساسية لإنتاج المعنى والمعلومة، كما باتوا يتحكمون بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل أنماط الحياة وأساليب العيش في المجتمعات المعاصرة.

إن التحول نحو الرقمنة لا يقتصر على الجوانب التقنية أو الاقتصادية فحسب، بل يمتد ليعيد تشكيل بنية الوعي الإنساني وأنماط التفاعل الاجتماعي والثقافي. فقد أصبح الإنسان المعاصر، أو ما يمكن تسميته بـ”الإنسان ما بعد الحداثي”، كائناً مترابطاً بشكل عضوي مع الوسائط الرقمية، لا فقط كأداة استعمال، بل كامتداد للذات. إن العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا لم تعد تفاعلية فحسب، بل اندماجية، حيث تُعاد صياغة الإدراك والسلوك في ضوء ما تتيحه هذه الأدوات من إمكانات.

في هذا الإطار، يُلاحظ تراجع الدور التقليدي للمثقف الكلاسيكي، الذي كان يُنظر إليه تاريخياً كمنتِج للمعرفة وموجّه للرأي العام، أمام صعود فئة جديدة من الفاعلين الرقميين الذين استطاعوا، من خلال أدوات التواصل الاجتماعي، أن يحتكروا الفضاء العمومي الرقمي. هؤلاء “الأعيان الجدد” لم يصلوا إلى مواقعهم بناءً على خلفية فكرية أو علمية، بل من خلال مهارات في بناء الصورة والتأثير العاطفي وتحقيق نسب المشاهدة، وهو ما يعكس تحوّلاً عميقاً في معايير الشرعية الرمزية والاجتماعية.

لقد أسهمت الخوارزميات وآليات تصفية المحتوى في ترسيخ سلطة هذه النخب الرقمية، حيث يتم تعزيز المحتوى الذي يحظى بتفاعل واسع، بغض النظر عن جودته أو صدقيته. وهذا ما يجعل من “البوز” أداة استراتيجية لصناعة الوجود والاعتراف الرمزي، ويحول الفضاء الرقمي إلى سوق تنافسي يقوم على الإثارة أكثر مما يقوم على التحليل أو الإبداع المعرفي. وعليه، أصبح من الشائع أن يتحول حدث هامشي أو شخص مغمور إلى ظاهرة عامة بفضل آليات التضخيم الإعلامي الرقمية.

ومع هذا التحول، بات الإنسان المعاصر يعيش في ظل مناخ اتصالي مشحون، لا يتيح بالضرورة فرص التأمل أو الفهم العميق، بل يدفع نحو الاستهلاك السريع للمعلومة، وتكريس أنماط من الوجود السطحي. هذه الوضعية تؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ”الاغتراب الرقمي”، حيث يتم اختزال الذات في تمثلات بصرية وآنية، وتُقوَّض الحدود بين الواقعي والافتراضي.

الأكثر من ذلك، أصبح للأعيان الرقميين دور تربوي غير مباشر، إذ يؤثرون في الذوق العام، وفي اختيارات الأفراد من حيث اللغة، المظهر، نمط العيش، بل وحتى في تشكّل الطموحات والقيم. فالمنصات الرقمية لم تعد مجرد فضاءات للتواصل، بل تحولت إلى أدوات للهيمنة الثقافية والرمزية، تمارس سلطتها بطرائق ناعمة، ولكنها عميقة الأثر.

وما يزيد من تعقيد المشهد هو أن هذه النخبة الرقمية لا تعترف بالوسائط الوسيطة كالكتب أو المقالات أو المؤسسات الفكرية، بل تنخرط مباشرة مع الجمهور عبر خطاب مباشر وشخصي، ما يجعلها أكثر قرباً للمتلقين من المثقف التقليدي، ولكن في الوقت ذاته، أكثر عرضة لتقديم محتوى ترفيهي يفتقر إلى العمق.

إن هذا التحول في بنية النخب يحمل دلالات سياسية أيضاً، حيث تتم إعادة تشكيل القوة الناعمة في المجتمع، ولم تعد تدار فقط من قبل مؤسسات الدولة أو الإعلام الرسمي، بل باتت موزعة على كيانات فردية لها قدرة غير مسبوقة على التأثير في الرأي العام، بل وحتى على تشكيل اتجاهات سياسية واجتماعية من خلال ما تنتجه وتروّجه من رموز وقيم.

من جهة أخرى، هذا الواقع يطرح تحديات حقيقية أمام المؤسسات التعليمية والثقافية، التي تجد نفسها مضطرة لمواكبة هذه التحولات، دون السقوط في منطق التبعية أو الترفيه السطحي. المطلوب اليوم ليس فقط إعادة الاعتبار للمثقف، بل إعادة بناء مشروع ثقافي قادر على فهم أدوات العصر وتطويعها لخدمة المعرفة والتحليل النقدي.

ختاما،فإن الإنسان المعاصر يعيش في مفترق طرق حاسم، بين أن يتحول إلى كائن رقمي خاضع لمنطق الخوارزميات ونزعة الاستعراض، أو أن يطوّر وعياً نقدياً يمكنه من توجيه التكنولوجيا بدلاً من أن يُقاد بها. إن هذا الخيار يظل مرهوناً بقدرتنا على إعادة تعريف الإنسان، لا فقط من خلال علاقته بالآلة، بل عبر تمسكه بقيم التفكير الحر، والمعنى، والعمق في زمن السرعة والتشظي.

مشاركة