” القاضي الرقمي “ورهان العدالة الذكية

نشر في: آخر تحديث:

ذ. شريف الغيام*

إذا كانت المحكمة الرقمية أحد تجليات إصلاح منظومة العدالة، التي ارتبطت تسميتها في إطار تصور مستقبل العدالة بالمغرب المعتمد عليها في صيانة حقوق المواطنين فرادا وجماعات كما هو منصوص عليه دستوريا بموجب المواد 117، 118، 119، 120 من الدستور، وفي نفس الوقت وجها من أوجه الرقي بالخدمات العمومية، فإنها بالمقابل تعتبر أحد المعايير المهمة في تقييم نمط الديموقراطية السائدة بدولة الحق و القانون؛ مما لا يجعلها حبيسة -البتة-  داخل ذلك النسيج محدد المعالم و الحدود، بقدر ما يدفعها -لا محالة- للارتباط بمنظومة عالمية تنظر للحق في التقاضي كحق ذي مقومات عالمية، أي أنه محمي وجوبا بمقتضى الصكوك الدولية وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقره  -أي حق التقاضي- كحق إنساني غير قابل للتجزيء أو الحرمان، بما لا يدع مجالا للشك أنه من حق كل إنسان أن ينعم بمحاكمة عادلة ومشروعة و أن تنظر في نزاعه هيئة قضائية محايدة.

 وهو نفس الأمر الذي تبنته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الكثير من قراراتها باعتمادها على مبدأ “القاضي الطبيعي” الذي أوصت بموجبه اللجنة الدولية للحقوقيين (ICj) في قرارها رقم 1989/32 الذي دعت فيه الدول إلى أن تأخذ في الاعتبار المبادئ الواردة في مشروع الإعلان العالمي لاستقلال القضاء والمعروفة باسم “إعلان سنغفي 17” الذي نصت المادة الخامسة منه على أنه:

1. لا يجوز إنشاء محاكم من أجل انتزاع الولاية القضائية الأصيلة والمخولة للمحاكم؛

2. لكل فرد الحق في أن يحاكم مع توخي السرعة الواجبة وبدون تأخير لا مبرر له أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية؛

3.  يتعين على الدولة، في مثل هذه الأوقات الطارئة، العمل على محاكمة المدنيين المتهمين بارتكاب جرائم جنائية أمام محاكم مدنية عادية.

(يراجع بهذا الشأن مقرر اللجنة الدولية للحقوقيين (ICJ) المبادئ الدولية المتعلقة باستقلال ومسؤولية القضاة والمحامين وممثلي النيابة العامة.

Independence the on Principals International  1.No Guide Practitioners – Prosecutors and Lawyers, Judges o

الترقيم الدولي: 8-121-9037-92-978 جنيف،2007 )

هاته القواعد التي تجعلنا أمام خيارات متعددة نحو أي نظام قضائي نبتغي في شقه المتعلق بمبدأ “القاضي الطبيعي”؟ وهل من شأن التعاطي مع رقمنة العدالة بالمستقبل أن يشكل مدخلا لصناعة قاضي رقمي؟ أم أن الأمر لا يرتبط بمبدأ “القاضي الطبيعي” أو “القاضي الرقمي” لأنهما وجهان لعملة واحدة؟ بيد أنه لا يتجاوز مجرد اعتماد لامادية الإجراءات واستبدالها بوسائل متطورة تكنولوجياً ورقمياً في تنزيل محاكمة يفترض فيها ألا تحيد عن مقومات المحاكمة العادلة وحسن الفصل في النزاع داخل نسيج متسق يزاوج الشرعية والمشروعية؟

كلها أسئلة ومحاور يظل المبتغى منها هو تثبيت أحقية الأفراد في أمن قضائي وعدالة لا توقفها الأزمات أو الأوبئة أو حتى حالات الطوارئ، أي أن تحدي استمرار المرفق القضائي حاجة ملحة لصيقة بالإنسان من غير المسموح التفريط فيها مهما كانت الظروف، الشيء الذي يفرض بالمقابل تبني إجراءات احترازية تجعل من مبدأ “القاضي الطبيعي” -بمفهومه الكلاسيكي- مبدأً متجاوزا نوعا ما، ليس على المستوى البنيوي وإنما على المستوى الوظيفي، أي أن القاضي يطور آليات اشتغاله في اعتماد وسائل تكنولوجية للتواصل عن بعد بينه وبين أطراف الخصومة، حفاظا على مصلحة أسمى ألا وهي الصحة العامة، ارتباطا بموضوع حالة الطوارئ المؤكدة بموجب القواعد المشار إليها أعلاه و كذا بموجب ما تم إقراره من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة و وزارة العدل التي دفعت لضرورة تبني نظام التقاضي عن بعد، الذي وإن كان يكتسي صبغة استثنائية كأحد الإجراءات الواجب اتخاذها بموجب مرسوم قانون حالة الطوارئ الصحية المعلن عنه بالمغرب، إلا أن ذلك لا يشكل مانعا قط في تبنيه وتطويره أمام النجاح الذي عرفه بحسب أرقام الملفات التي تم البت فيها والمعلن عنها من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية في كل فترة، ونهجه القويم في سبيل اعتماد سياسة تواصلية للكشف بشكل مستمر ودائم عن عدد الجلسات المبرمة بموجب هذا النظام وعدد الأحكام الصادرة عبره.

فإذا كان كل هذا مدعاة حقيقية للتنويه بكل المجهودات المبذولة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من خلال دورياته المتسمة بحضورها القوي وأبعادها الإسهامية في باب محاربة وباء كورونا (كوفيد 19)، وكذا رئاسة النيابة العامة التي ما فتأت تعتمد على البريد الإلكتروني في استقبال الشكايات ومعالجتها عبر توفير خدمة الهاتف والفاكس وغيرها من أشكال التعبئة، لتسخير كل الوسائل اللوجيستيكية المتوفرة في سبيل دفع عجلة القضاء نحو التغلب على كل الصعاب التي تعتريه.

 وهي إرادة قوية من قبل القيمين على شؤون العدالة ورغبة ملحة تواقة لكسب رهان العدالة الذكية، التي تظل بحاجة ماسة لتقعيد قانوني ولوجيستيك ذكي ينتقل من مفهوم الحاجة إلى التدبير الإستراتيجي لاعتماد المحكمة الرقمية، التي أكد عليها السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عند افتتاح دورة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتاريخ 20 يونيو 2020.

كل ذلك يجعل من حضور مبدأ “القاضي الرقمي” آلية جديدة في الشأن القضائي المغربي، وقفزة نوعية تثير الاهتمام بالجانب الاجتهادي، باعتماد مؤهلات ذاتية تبنى على حفظ أحقية أطراف الخصومة ودفاعهم في اعتماد آلية التقاضي عن بعد من عدمه.

 إلا أنه وفي انتظار إخراج تشريعي ولوجيستيكي متين للمحكمة الرقمية هي مناسبة لتسليط الضوء على الحاجة “للقاضي الجديد” أو “القاضي الرقمي” الذي لن يطالب فقط بالتمكن من ضبط النصوص القانونية والباسها الواقعي، بل حتى بضمان سيرها الرقمي الذي يستلزم عليه تطوير كفاياته العلمية والعملية بهذا الشأن مما يجعل من رقمنة القضاء مادة يتعين التفكير في جوانبها التكوينية سواء في إطار التكوين الأساسي للسادة القضاة المتمرنون (الملحقين القضائيين) أو حتى في إطار التكوين المستمر للسادة القضاة الممارسون.

وهو الأمر الذي دفع بالعديد من الأنظمة القضائية بالعالم للانفتاح أكثر على المجال التكنولوجي و الرقمي، وعلى رأسها تجربة دولة الصين الشعبية و خاصة محكمة شنغهاي العليا التي تعتبر الأولى عالميا في استخدام الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المحكمة الرقمية، والمؤشرات الإحصائية لنجاح هذه التقنيات في تطوير الأداء القضائي من حيث سرعة البت في القضايا وجودة واتساق الأحكام، ذهبت فيه لأبعاد رقمية جد متطورة، ليس فقط على مستوى عقد الجلسات وإنما أخذت بناصية غير مسبوقة في مجال العدالة والتحقق من الأدلة بزمن قياسي بحسب ما أكده السيد هوانج بوا تشينج نائب رئيس محكمة شنغهاي الشعبية المتوسطة الثانية، بكون أن برنامج الذكاء الاصطناعي الجديد ساعد في الحصول على نتائج متفوقة باعتماد نظام يسمى “نظام 206” والذي استخدم من قبل محكمة الشعب المتوسطة رقم 2 في شنغهاي، والذي تم تطويره بشكل مشترك من قبل الشركة التكنولوجيا الصينية iFlytekوالأجهزة القضائية والنيابية والأمنية العامة في البلاد.

وفي حين شهد “نظام 206” اختباراً في العديد من المدن الصينية في العام الماضي، وتم تنفيذ تقنية مختلفة من الذكاء الاصطناعي في قاعات المحاكم الأخرى، لتصبح محكمة شنغهاي أول محكمة تعتمد هذا البرنامج الجديد رسمياً، والذي حذى بالعديد من الدول عبر العالم تواقة لدخول غمار الجيل الجديد بأنظمتها القضائية.  

فولوج العدالة أضحى مرتبطا باقتحام عالم التكنولوجيات الحديثة ولما لا التفكير بنموذج مغربي يعتمد على مبدأ التدرج في إيراد منصات تقاضي رقمي بالقضايا التقريرية البسيطة كقضايا الحالة المدنية؛ القرب؛ رد الاعتبار؛ مخالفات السير… وغيرها، إلى أن يستقيم الأمر ثم الانتقال للشطر الثاني أي لقضايا المساطر الكتابية للقضاء المتخصص كالقضايا الإدارية والتجارية بشكل تدريجي، على أن يتم تخصيص الشطر الثالث للقضايا التواجهية التي يكون فيها طرفان بالخصومة.وهذه مجرد اقتراحات لا غير، يبقى الهدف منها تحريك نقاش جدي بهذا الشأن، لمرحلة ما بعد الجائحة، لمستقبل العدالة بالمغرب التي شهدت مولودا قضائيا جديدا من رحم المجلس الأعلى السلطة القضائية، بموجب مذكرات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بجميع أعدادها، والتي تشكل عنوانا بارزا في كون أن السادة القضاة قادرون على كسب رهان رقمنة القضاء، الذي يعد مطمحا للجميع، لا يمكن تحقيقه إلا بتجنيد جميع مكونات العدالة في هذا الورش الكبير وفق مقاربة مؤطرة قانونا بشكل تشاركي هدفه الاول و الأخير توفير عدالة ذكية مبنية على التيسير و النجاعة خدمة للمتقاضي، ولما لا جعل القضاء المغربي في مصاف الدول الأكثر تقدما في أنظمتها المعلوماتية و التكنولوجية.

اقرأ أيضاً: