بقلم محمد قريوش
بعد واحدٍ وعشرين شهراً من القتال المتواصل، تبدو حربُ غزة أكبرَ من أن تُحسَم، وأخطرَ من أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. إسرائيل، التي وعدت بأن «تُسحق حماس في أسابيع»، غارقةٌ في استنزافٍ يلتهم اقتصادها ويُفجِّر انقسامها الداخلي. الولايات المتحدة أخطأت الحساب حين فتحت جبهةً مباشرة مع إيران، فوجدت قواتها هدفاً لردٍّ صاروخي على قاعدة العديد في قطر. وفي المقابل، أظهرت المقاومة الفلسطينية والإيرانية قدرةً لافتة على الصمود، ما قلب ميزان الردع التقليدي وأجبر العواصم الكبرى على التفكير في سلّمٍ للنزول من الشجرة.
غزة: هدف «القضاء على حماس» يتبدّد
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 دفعت غزة ثمناً إنسانيّاً مفزعاً: ما يقرب من 56 ألف شهيد وأكثر من 131 ألف جريح، أي نحو أربعة في المئة من سكان القطاع. ورغم الدمار واسع النطاق، ما زالت «كتائب القسّام» تطلق رشقاتٍ رمزيةً وتعمد إلى كمائن ليلية عند أطراف خان يونس ورفح، أوقعت قتلى في صفوف القوات المتوغّلة. داخل إسرائيل، يحتجّ أهالي الأسرى أسبوعياً أمام منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مطالبين بصفقة تبادل ووقف الحرب، وهو ما يعكس تصدّع الإجماع الذي استندت إليه الحكومة عند انطلاق العمليات البرّية.
تل_أبيب: تخبّط سياسي وأعباءٌ اقتصادية
سقطت حكومة نتنياهو في فخّ توسيع الأهداف بلا خريطة خروج: من «إسقاط حماس» إلى «تغيير معادلة الردع مع إيران». ومع كل جبهة جديدة تتقلّص الخيارات ويزداد الضغط الداخلي. تقدّر وزارة السياحة الإسرائيلية خسائرها بأكثر من 3.4 مليارات دولار، فيما تشير تقارير مستقلة إلى كلفة كلية تناهز 67 مليار دولار حتى منتصف يونيو 2025. الدفاع الجوّي ناله الإنهاك؛ فالقبة الحديدية ومنظومات «مقلاع داود» استنزفت ما يزيد على ملياري دولار من صواريخ الاعتراض خلال أسابيع، وسط حديثٍ رسمي عن مخاوف من نفاد المخزون.
واشنطن: خطأ حساب يفتح باب الردّ الإيراني
في العاشر من يونيو/حزيران، نفّذت الولايات المتحدة وإسرائيل ضرباتٍ على ثلاثة مواقع نووية إيرانية بلا غطاء أممي. جاءت النتيجة عكسية؛ إذ أطلقت طهران أربعة عشر صاروخاً باليستياً باتجاه أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. أُبلغت الدوحة مسبقاً، فاعترضت الدفاعاتُ ثلاثة عشر صاروخاً ولم تقع إصابات، لكن الرسالة وصلت: إيران قادرة على إيذاء المصالح الأميركية من دون أن تتجاوز الخطوط التي قد تشعل حرباً شاملة. الرئيس دونالد ترامب وصف الهجوم بـ«الضعيف» ودعا إلى وقف القتال، ملمّحاً إلى أن حملةً رئاسية على الأبواب لا تحتمل مستنقعاً جديداً في الخليج.
طهران: ردٌّ محسوب وتأكيدٌ لقدرة الردع
إيران اختارت « الضربة–الرسالة » : حجم ناري يسمح بإثبات القدرة ويَحُدّ الخسائر الجانبية. والأهمّ أنّها نفّذت هجوماً آخر على تل أبيب بعد أقلّ من أسبوعين من قصف منشآتها، ما أوحى بأن الجزء الأعظم من ترسانتها الصاروخية بقي سليماً. داخلياً، لم تُسجَّل احتجاجات واسعة مثل تلك التي هزّت البلاد عام 2022؛ إذ وظّفت القيادة شعار «وحدة الصف في مواجهة العدوان الأميركي–الصهيوني» لشدّ العصب الشعبي.
إلى أين؟ سيناريوهات الأسبوع القادم
- تهدئة مشروطة كأحد أهم السيناريوهات
وقف الغارات بعيدة المدى مقابل تجميد الردّ الإيراني؛ تدفع إليه قطر وواشنطن بدعمٍ أوروبي وقلقٍ من اضطراب أسواق الطاقة. - اشتباك محدود في لبنان احتمال لجوء «حزب الله» إلى جولة نار سريعة لتحسين شروط التفاوض، مع تفاهمٍ ضمني على منع توسّع الجبهة.
- صفقة أسرى
جزئية ضغط عائلات الأسرى وتراجع شعبية نتنياهو قد يفتحان ثغرة لوساطة مصرية–قطرية. - جولة قصف متبادل جديدة و هو مستبعد الحدوث
خطأ تقدير أو سقوط قتلى أميركيين في قواعد عراقية أو سورية قد يشعل تبادلاً محدوداً. - تصعيد شامل كسيناريو ضعيف جدا.
انهيار المسار الدبلوماسي أو ضربة خاطئة لرمز قيادي كبير قد يجرّ المنطقة إلى مواجهة أوسع، لكن كل الأطراف تبدو حذرة حيال هذا السيناريو.
و هنا تجدر الإشارة إلى ان الحرب انطلقت بوصفها حملة «موضعية» في غزة، لكنها تمدّدت فجأة إلى الخليج وإيران، لتثبت أنّ الكلفة قد تفوق بكثير أي مكاسب معلَنة. اليوم تدرك واشنطن وتل أبيب وطهران على حدّ سواء أنّ استمرار القتال يهدّد استقراراً اقتصادياً هشّاً ويستنزف شرعيّات سياسية متآكلة. إذا ما أُنجِزت صفقة تحفظ ماء وجه إسرائيل في ملف الأسرى، وتضمن لإيران استمرار قوة ردعها، وتسمح لواشنطن بالخروج من حقل ألغام انتخابي، فإنّ وقفاً متعددَ الطبقات لإطلاق النار قد يصبح واقعاً خلال أيام. غير أنّ تجربة الشهور الماضية تُذَكِّر بأنّ خطأً واحداً في الحساب، أو رصاصةً طائشة، كفيلٌ بأن يعيد عقارب الساعة إلى الصفر.