إكتشاف …مطار سري في الحديقة الخلفية بفيلا مسؤول  قضائي

إكتشاف …مطار سري في الحديقة الخلفية بفيلا مسؤول قضائي

نشر في: آخر تحديث:

بقلم عزيز بنحريميدة
يوما بعد يوم أصبحت الأخبار تُصنع و لا تُكتشف، وتُبث لا تُنقل، يطالعنا مرتزقة “يوتيوب” وصفحات التواصل الاجتماعي كل يوم بـ”اكتشافات” جديدة تتجاوز حدود العقل والمنطق ،وآخر صيحات هذا الهراء، التي تهدف غالبًا إلى الابتزاز والتشهير، هو ما يُروّج له البعض عن اكتشاف أكواريوم تحت أرضي في الحديقة الخلفية لرئيس إحدى المحاكم بالمغرب!
بالتأكيد، الخبر يحمل في طياته كل مقومات الإثارة والتشويق التي يبحث عنها صائدو المشاهدات واللايكات. تخيلوا معي المشهد: رئيس محكمة مرموق، يرتدي بجامته، يحتسي قهوته الصباحية في حديقته الهادئة، وفجأة يكتشف أن تحت أقدامه مباشرة يوجد بالإضافة إلى الحوض المائي ،مدرج للطائرات، وصالات انتظار، وبرج مراقبة! ربما كان يستخدمه في رحلاته السرية إلى جزر الواق واق، أو لتصدير “مخالفات السير” إلى كوكب المريخ.
هذه “الاكتشافات” العجيبة ليست وليدة الصدفة، بل هي صناعة ممنهجة تعتمد على مبدأ “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”. فالمؤامرة هنا أكبر من مجرد حوض مائي أكواريوم او مطار سري ، بل إنها مؤامرة تستهدف عقول المتابعين، وتستخف بذكائهم، وتستغل تعطشهم للأخبار المثيرة، ولو كانت محض خيال. الأهداف واضحة: إما الضغط على المسؤولين القضائيين للرضوخ لرغبات معينة، أو تصفية حسابات شخصية، أو ببساطة كسب المال من وراء بيع الوهم.
الأكثر سخرية هو أن هؤلاء “المحققين” اليوتوبيين لا يتورعون عن استخدام صور ومقاطع فيديو مفبركة، وعناوين رنانة لا علاقة لها بالمحتوى، وكل ذلك تحت غطاء “الكشف عن الحقيقة” و”محاربة الفساد”. وكأن الفساد أصبح يقيم في الأحواض و البرك المائية و المطارات السرية في الحدائق الخلفية للمسؤولين، بدلًا من أن يتسلل إلى جيوبهم وخزائنهم بطرق أكثر تقليدية!
الغريب في الأمر أن هناك من يصدق هذه الترهات، ويتفاعل معها، ويشاركها على نطاق واسع، فيساهم بذلك في نشر السموم وتلويث الفضاء العام بالادعاءات الباطلة. وهذا يطرح تساؤلًا مهمًا: هل أصبحت عقولنا مستباحة إلى هذا الحد؟ هل فقدنا القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الخبر الموثوق والشائعة المغرضة؟
إن هذه الظاهرة لا تضر فقط بسمعة المؤسسات والأفراد، بل تضرب في الصميم مبدأ الثقة في الإعلام، وتُمهد الطريق أمام المزيد من الفوضى المعلوماتية. فمتى سنتوقف عن الانسياق وراء هذه الخزعبلات؟ ومتى سندرك أن الحقيقة لا تُكتشف في باطن الأرض عبر كاميرات الهواتف، بل تُبنى على أسس من البحث والتحقيق والمهنية؟
ربما في يوم من الأيام، سيكتشف “يوتيوبر” آخر أن هناك قاعدة فضائية سرية تحت سوق الخضر، أو أن رئيس إحدى الجماعات المحلية يمتلك غواصة نووية في بئر منزله. وعندها فقط، قد ندرك حجم الجنون الذي وصل إليه عالمنا الافتراضي.
الظاهرة باتت أكثر من مجرد عبث افتراضي، بل تحولت إلى سلوك ممنهج يستهدف القضاء ورجالاته. إذ يختبئ وراء الكاميرات وأقنعة الحياد بعض من لا يتورعون عن نحت سيناريوهات من الخيال الرديء، يدّعون من خلالها أنهم يكشفون “الحقائق”، فيما هم في الواقع يمارسون أبشع صور الابتزاز والتشهير.

يتناسى هؤلاء أن حرية التعبير لا تعني إطلاق العنان للاتهامات العبثية، ولا أن يتحول “البث المباشر” إلى محكمة موازية تفتقد لأبسط معايير النزاهة والموضوعية. فحين تصبح مهنة الصحافة أو محتوى الفيديوهات مجرد وسيلة لتصفية الحسابات، فإننا ندخل حتماً في نفق أخلاقي مظلم، حيث يُستهدف الشرفاء لسبب بسيط: لأنهم رفضوا الخضوع، أو لأنهم طبقوا القانون دون محاباة.

إن من يتابع محتوى بعض هؤلاء المدعين لا يحتاج إلى مجهر أو تحليل لغوي دقيق ليرى حجم التناقض، والتضليل، والاستخفاف بعقول الناس. فهم خبراء في انتقاء العناوين “المزلزلة”، وبارعون في التلاعب بالصورة والصوت، لكنهم فاشلون تماماً في تقديم دليل واحد.

من المؤسف أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي من فضاء للحوار إلى منصة لاغتيال السمعة. والأسوأ أن يُترك هؤلاء العابثون يعيثون فساداً رقمياً دون رادع، بينما تتعالى أصوات القانون تطالب باحترام المؤسسات، وفي طليعتها القضاء، الذي يمثل صمام الأمان وضمانة الحقوق.

فيا سادة “الكليك” و”الترند”، اعلموا أن الكذب لا يطير، وإن حلق طويلاً. وأن هيبة القضاء ليست سلعة تُساومون عليها مقابل لايكات أو تحويلات بنكية مشبوهة. أما المطار الذي تبحثون عنه، فلن تجدوه في حديقة القاضي… بل ربما في خيالكم المريض.

اقرأ أيضاً: