عثمان لبصيلي في ضوء تصور محمد عابد الجابري
في زمنٍ تراجعت فيه مكانة المثقّف من فاعلٍ نقديّ مستقل إلى مجرّد موظفٍ يخدم الأيديولوجيا، يعود السؤال القديم المتجدّد: من هو المثقّف حقًا؟
سؤالٌ حاول المفكر المغربي محمد عابد الجابري الإجابة عنه، لا من زاوية الشهادات أو المكانة الاجتماعية، بل من زاوية الدور التاريخي والوظيفة النقدية التي يؤديها المثقّف في مجتمعه. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة بعض التجارب المحلية بوصفها ممارسات ثقافية نقدية، ومن أبرزها تجربة عثمان لبصيلي.
يؤكد الجابري أن المثقّف ليس مجرد من يمتلك المعرفة، بل هو من يمارس نقد العقل السائد ويفكك البنى الذهنية والسياسية التي تُنتج الاستبداد والفساد والتطبيع مع الانحراف.
فالمثقّف، في هذا التصور، لا يبرّر الواقع بل يسائله، ولا يسعى للتقرّب من السلطة بل يحتفظ بمسافة نقدية منها، ولا يكتفي بوصف ما يجري بل يسهم في صناعة الوعي.
انطلاقًا من هذا المعيار، يمكن فهم تجربة عثمان لبصيلي أو كما يطلق عليه بإسم : الشيخ عثمان لبصيلي باعتبارها نموذجًا للمثقف النقدي في سياق محليّ شديد الحساسية. فمن خلال مقالاته الصحفية، وبرنامجه «برنامج الجريمة»، ونشاطه في فضاء «مسرح الجريمة سيدي بنور»، لا يتعامل مع الجريمة كواقعة جنائية منعزلة، بل كنتاجٍ لبنيةٍ سياسية وإدارية وثقافية مختلّة. وهكذا ينتقل من منطق الحدث إلى منطق النسق، وهو جوهر ما دعا إليه الجابري في نقده للعقل العربي.
وما يلفت في هذه التجربة أنها لا تستند إلى موقعٍ رسميّ، ولا تستمد مشروعيتها من قربٍ من دوائر القرار، بل من الاحتكاك المباشر بالواقع الاجتماعي. وهذا ما جعلها عرضةً للتهميش والتشكيك، وهو ثمنٌ اعتبره الجابري علامةً على صدق المثقف لا على فشله، فالمثقف الحقيقي لا يُكافأ بسهولة، لأنه يزعج البُنى المستقرة ويكشف ما يُراد له أن يبقى مسكوتًا عنه.
خطاب عثمان لبصيلي لا يقوم على الإثارة أو الشعبوية، بل على ربط الوقائع بسياقها وتحميل المسؤولية للمنظومة بدلًا من الأفراد فقط.
وهذا ما يرفعه من موقع “الإعلامي العابر” إلى المثقف الفاعل الذي يشتغل على الوعي الجماعي ويسعى إلى بناء مواطن ناقد لا متلقٍ سلبي.
من هنا يمكن القول إن الشيخ عثمان لبصيلي يجسّد نموذج المثقّف كما تصوّره الجابري: مثقف يعمل من داخل المجتمع لا فوقه، يصطدم بالنسق بدل التعايش معه، ويدفع ثمن استقلاله بدل أن يحوّله إلى رأسمال رمزي.
إن إعادة الاعتبار لهذا النوع من المثقفين ليست مسألة أشخاص، بل مسألة تتعلق بمستقبل الوعي الجمعي.
فحين يُقصى المثقف النقدي، لا يُقصى فرد بعينه، بل يُقصى السؤال الجوهري: من يملك الجرأة على مساءلة ما يبدو بديهيًا؟

