بقلم : رشيد حبيل.
قال ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق:
«إن أعظم درسٍ يمكن أن نتعلّمه من التاريخ هو أن الحضارات لا تنهض بالقوة وحدها، بل بالعقول التي تُحسن التفكير، وبالرجال الذين يؤمنون بأن التعليم ليس ترفًا، بل شرطًا للبقاء، وأن بناء الإنسان يسبق بناء المصانع والجيوش، لأن من لا يملك عقلًا منضبطًا لن يحسن استعمال أي قوة تُمنح له.»
في مدينة ابن أحمد، حيث تُقاس القامات بما تُخلِّفه من أثرٍ لا بما تحوزه من ألقاب، يبرز اسم الأستاذ الباين الترابي بوصفه نموذجًا تربويًا نادرًا، اختار أن يجعل من التعليم مسارًا أخلاقيًا قبل أن يكون مسارًا مهنيًا. إن الكتابة عنه ليست ترفًا إنشائيًا، ولا مجرّد استذكار لمسار مهني، بل هي وقفة اعتراف أمام تجربة إنسانية وتربوية تشتغل في العمق، وتتحرك بهدوء، وتُراكم أثرها دون ضجيج.
اشتغل الأستاذ الباين الترابي في تدريس مادة الفيزياء والكيمياء بثانوية باجة بمدينة ابن أحمد، وهي مادة مركّبة، دقيقة، تحتاج من مدرسها أكثر من إتقان المحتوى؛ تحتاج إلى صبرٍ ذهني، ومنهجية صارمة، وقدرة على تحويل المجرد إلى قابل للفهم. وقد استطاع، عبر سنوات من الممارسة الواعية، أن يمنح هذه المادة روحًا تعليمية مختلفة، تجعلها أداة لتدريب العقل لا مجرد مادة امتحانية. كان يدرّس القانون الفيزيائي أو التفاعل الكيميائي باعتباره منطقًا كونيًا، لا صيغةً للحفظ، ويحرص على أن يخرج المتعلم من الحصة وهو يفهم «لماذا» قبل أن يحفظ «كيف».
غير أن ما يميّز الأستاذ الباين الترابي حقًا، هو ذلك الامتداد التربوي الذي تجاوز أسوار المؤسسة العمومية، ليُسهم في تأسيس مجموعة مدارس اقرأ الخاصة بمدينة ابن أحمد. وهو تأسيس لا يمكن فهمه خارج سياقه القيمي؛ إذ لم يكن بحثًا عن حضور اسمي أو موقع إداري، بل تعبيرًا عن قناعة راسخة بأن إصلاح التعليم لا يُستورد جاهزًا، بل يُبنى من الداخل، بفكرٍ متأنٍّ، ورؤية واضحة، وإيمان عميق بدور المدرسة في صناعة المستقبل.
لقد كان حضوره في هذا المشروع التربوي حضور المؤسس الواعي، الذي يدرك أن المدرسة ليست بناية ولا شعارًا، بل منظومة متكاملة، قوامها الحكامة، والانضباط، وجودة التأطير، وربط المعرفة بالقيم. ومن يتتبع مسار هذه المجموعة التعليمية، يلمس منذ بداياتها ذلك النفس التربوي الرصين، الذي يوازن بين الطموح والجودة، وبين الصرامة والإنسانية، وهو توازن نادر في زمن طغت فيه السرعة على التأسيس المتين.
ويكفي أن تُذكر سيرة الأستاذ الباين الترابي بين زملائه وتلامذته، حتى تُستحضر صورة أستاذٍ عُرف بأخلاقه العالية، وهدوئه، واتزانه، واحترامه العميق لمهنته. لم يكن من هواة الاستعراض، ولا من صُنّاع الخطاب الفضفاض، بل كان يُمارس سلطته التربوية بصمتٍ ووقار، ويُقوِّم الأداء بالحجة لا بالصوت المرتفع، ويؤمن بأن الانضباط الحقيقي يبدأ من احترام العقل، لا من التخويف.
في زمنٍ أصبحت فيه مفاهيم مثل الحكامة التعليمية تُستعمل بكثرة، أحيانًا بلا روح، تقدّم تجربة الأستاذ الباين الترابي مثالًا عمليًا لحكامة هادئة، غير معلنة، لكنها فعّالة. حكامة تقوم على وضوح الأدوار، وعلى ربط المسؤولية بالضمير المهني، وعلى الإيمان بأن جودة التعليم لا تتحقق بتغيير المناهج فقط، بل بتغيير الذهنيات التي تُدبِّرها. لقد كان يرى أن المدرسة، لكي تنجح، تحتاج إلى أطر تؤمن برسالتها، لا إلى منفذين آليين لبرامج جاهزة.
ولعل أهم ما يُحسب له، أنه ظلّ وفيًا لفكرة التعليم باعتباره مشروعًا مستمرًا، لا مرحلة تُطوى بانتهاء سنوات العمل. فحضوره التربوي ظل متقدًا، يواكب، ويُسهم، ويُوجّه، ويشارك، بعقلٍ يقظ، وتجربة متراكمة، دون أن يتكئ على الماضي أو يُحيله إلى وسامٍ جامد. تلك الحيوية ليست وليدة ظرف، بل نتيجة مسار طويل من الانضباط الذاتي، والإيمان بالمعرفة كقيمة عليا.
إن تكريم الأستاذ الباين الترابي هو، في جوهره، تكريم لنموذج الأستاذ الذي ندر وجوده: أستاذ يجمع بين الصرامة العلمية والنبل الإنساني، بين الحكمة العملية والبساطة السلوكية، وبين الحضور المؤثر والتواضع الصامت. وهو أيضًا رسالة ضمنية إلى الأجيال الجديدة من المدرسين، مفادها أن التعليم، حين يُمارَس بضمير، يتحول إلى أثرٍ يتجاوز الزمن، ويصنع ذاكرة جماعية لا تُمحى.
في مدينة ابن أحمد، سيظل اسم الأستاذ الباين الترابي علامة على مرحلة تربوية ناصعة، وشاهدًا على أن بعض الرجال لا يحتاجون إلى أضواء كي يُرى أثرهم، لأن ما يزرعونه في العقول والضمائر كفيل بأن يتكفّل بالباقي.

