صوت العدالة- معاذ فاروق
بعد شهرٍ من الصمت، ليس هروباً من الكتابة بل لأن الكلمات نفسها أصبحت عاجزة أمام واقعٍ يزداد التباساً، أعود لأضع مدينة سطات تحت مجهر التحليل، لا بدافع النقد من أجل النقد، بل لأن هذا الحاضر القاتم لم يعد يحتمل مزيداً من المجاملة.
فكل من ينظر إلى سطات بحدّ البصيرة قبل حدّ البصر يدرك أن ما نعيشه ليس مجرد اختلالات ظرفية، بل تراكمات عميقة أنتجت نموذجاً محلياً مترهلاً، بلا رؤية، بلا بوصلة، وبلا قدرة على التقاط مؤشرات الزمن الجديد.
سطات اليوم تشبه مدينة فقدت ذاكرتها التنموية. قرارات تُتَّخذ بمنطق المناسبات، مشاريع تُصاغ سريعاً ثم تتبخّر، كأنها طقوس عابرة لا أثر لها. الأخطر من كل ذلك ليس الفشل بحد ذاته، بل الإصرار الجماعي على التعامل مع الفشل باعتباره أمراً عادياً. وهادشي بصراحة ولى ما كيضحكش… كيخلّي الواحد يتساءل: شكون بالضبط اللي مازال مقتنع بهاد المستوى؟
الحديث عن تحميل المسؤولية طرفاً واحداً فقط، سواء كانت السلطة المحلية أو الإقليمية، صار وهماً. الحقيقة أن هذا المشهد تعيد إنتاجه ثلاثة عناصر متداخلة: اختيارات انتخابية تُمنح بعاطفة أكثر مما تُعطى بمعايير، نخب سياسية تُعيد تدوير نفس الخطاب بلا تطوير، ومؤسسات محلية تشتغل بمنطق ردّ الفعل لا بمنطق التخطيط الاستراتيجي.
المدينة لم تسقط لأنها محرومة من الإمكانيات؛ سطات تملك من الموقع، ومن الرصيد البشري، ومن التاريخ، ما يجعلها قادرة على خلق نموذج تنموي مشرف. لكنها فقدت شيئاً أهم من المال والموارد: عقل تدبيري يجمع بين المعرفة والرؤية والجرأة.
السياسة هنا تحولت إلى ممارسة خشبية، خطاب بلا أدوات، ووعود بلا هندسة. وهذا الانفصال بين الشعارات والواقع خلق فجوة حقيقية بين المواطن ومن يتحدث باسمه.
وفي خضم هذا المشهد المربك، تبرز فئة لا تزال تبني مواقفها على التوجهات والأيديولوجيات أكثر مما تبنيها على الواقع والتحليل. لهؤلاء نقول بلا مواربة: سئمنا هذه المسرحيات الفكرية الفارغة. تعبنا من التنظير الذي لا يتحول إلى فعل، ومن الانتقاد الذي لا يقدّم دفعة واحدة نحو التغيير. نريد عملاً حقيقياً، لا طقوساً خطابية ولا صراع شعارات. راه المواطن ماشي محتاج مزايدات… محتاج حلول.
الواقع اليوم يفرض تفكيراً مختلفاً:
نحتاج إلى نخب تتقن القراءة الدقيقة للواقع، تفهم دينامية الأجيال الصاعدة، وتملك شجاعة اقتراح مشاريع لا تعتمد على الترقيع، نحتاج لمسؤولين يعتبرون التنمية مساراً وليس منشوراً على الفيسبوك، نحتاج لناس يعرفون كيف تُدار المدن في القرن الواحد والعشرين، لا كيف تُدار بلدية في سبعينيات القرن الماضي.
أما بقاء الأمر كما هو، فهو ضمان لاستمرار نفس النتائج. وراه اللي كيرجع نفس الوجوه ونفس الأساليب ونفس الوعود… ما خاصوش يتسنى نتيجة مختلفة.
هذا الوضع خلق حالة إحباط غير معلنة: شباب لا يرى لنفسه موقعاً في المشهد المحلي، مواطنون فقدوا الثقة في قدرة المنتخبين على التغيير، ونخب صامتة لأنها تدرك أن المشهد يكرر نفسه بإيقاعٍ يبعث على الملل. وما لم نفهم أن السياسة اليوم تُدار بالكفاءة والمعرفة والذكاء المؤسسي، لا بالمجاملات أو الاصطفافات الموسمية، فسنظل ندور في نفس الحلقة.
ومع ذلك، هناك مساحة ضوء لو كانت ضيقة تقول إن المدينة قادرة على الخروج من هذا المأزق إذا تغيّرت طريقة التفكير قبل تغيير الأشخاص. نحتاج إلى مشروع تنموي مبني على تشخيص علمي، وإلى إعادة ترتيب الأولويات، وإلى الشجاعة الكافية لتحمّل مسؤولية القرار.
وما يمكنش نبقاو غير كنقولو: “المدينة خاصها اللي يخدم” وفي نفس الوقت نشجعوا نفس العقليات اللي عمرها ما خدمت أصلاً.
إن سطات لا تحتاج إلى بكاء جديد على الأطلال، ولا إلى خطابات بطولية، بل إلى عمل يعيد للمدينة صفتها الأصلية: مدينة، لا مجرد “مكان”. فإذا لم نغيّر منطقنا في الاختيار والتفكير والتدبير، فسنبقى نكتب عن الأزمة بدل أن نخرج منها.

