أصدرت الغرفة العقارية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 20 أكتوبر 2025 قراراً قضائياً مهماً في الملف عدد 823/1405/2025، أنهت به نزاعاً امتد لأكثر من ثلاث سنوات، بعدما قضت بعدم قبول طلب إعادة النظر شكلاً، مؤكدة أن الطعن المقدم لا يستوفي الشروط القانونية المنصوص عليها في الفصول 402 و408 و410 من قانون المسطرة المدنية. ويُعد هذا القرار محطة بارزة في مسار الاجتهاد القضائي المغربي، لما تضمّنه من توضيح دقيق للطبيعة القانونية للطعن بإعادة النظر باعتباره طريقاً استثنائياً لا يجوز استعماله إلا ضمن نطاق ضيق ومحدد.
أكدت المحكمة في تعليلها أن إعادة النظر ليست وسيلة عادية لإعادة فتح النزاع، بل هي مسطرة استثنائية تهدف حصراً إلى تصحيح أخطاء قضائية جسيمة واستثنائية لا يمكن معالجتها بطرق الطعن العادية. وأوضحت أن قبول إعادة النظر في قرار سبق أن كان موضوع طعن مماثل يُعد تجاوزاً لحدود المشرع وخرقاً لمبدأ استقرار المراكز القانونية، لما في ذلك من تهديد للأمن القضائي وإفراغ لحجية الأحكام من مضمونها. وأبرز القرار أن استقرار الأحكام القضائية يمثل ركناً أساسياً من أركان العدالة، وأن توسيع مفهوم إعادة النظر دون مبرر قانوني يؤدي إلى اضطراب المنظومة القضائية وإطالة أمد التقاضي على حساب المصلحة العامة.
وجاء هذا القرار في سياق نزاع عرف تعقيدات متعددة، تسببت في فرض حجوزات وقيود مالية على جمعية ذات طابع اجتماعي، قبل أن يتبين لاحقاً أن تلك الإجراءات غير مؤسسة قانوناً. وقد ساهم القرار في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بعد مسار قضائي طويل، وأعاد الاعتبار لمبدأ احترام القانون في تنفيذ الأحكام وتقدير مراكز الأطراف وفق ضوابط العدالة. ويُبرز هذا الحكم كيف استطاعت المحكمة الموازنة بين حق التقاضي وضمان استقرار النظام القضائي، في انسجام تام مع التوجه الحديث لمحكمة النقض التي شددت في قرارات متتالية على أن الطعن بإعادة النظر ليس وسيلة للتقاضي من جديد بل لتدارك الخطأ القضائي النادر الذي يمس بجوهر العدالة.
إن الطابع الاستثنائي الذي كرّسته محكمة الاستئناف من خلال هذا القرار يعكس فهماً متقدماً لفلسفة المشرع المغربي في تنظيم طرق الطعن، إذ وضعت المحكمة حدوداً واضحة بين استعمال الحق المشروع في الطعن وبين سوء استعمال المساطر القضائية. فالقرار جاء ليذكّر المتقاضين بأن العدالة لا تتحقق بتكرار الطعون، بل بتكريس نهائية الأحكام واستقرارها، وهو ما يشكل جوهر مفهوم الأمن القانوني الذي يقوم عليه النظام القضائي المغربي. كما أبرزت المحكمة أن استنفاد طرق الطعن يجب أن يُفهم كضمانة للعدالة وليس كقيد عليها، لأن العدالة الحقة لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت للأحكام قوة إلزامية تُحترم من الجميع.
ويمثل هذا القرار إضافة نوعية للاجتهاد القضائي المغربي، إذ أسهم في بلورة رؤية مؤسساتية دقيقة لمفهوم إعادة النظر كاستثناء من قاعدة نهائية الأحكام، وأغلق الباب أمام محاولات التوسع في استعمال هذه المسطرة خارج الحالات التي نص عليها القانون بشكل حصري. كما وضع القرار معايير موضوعية يمكن أن يعتمدها القضاة مستقبلاً في تقييم مشروعية الطعون المماثلة، ما يعزز توحيد الاجتهاد القضائي ويكرّس الثقة في المؤسسة القضائية.
ويؤكد هذا القرار أن القضاء المغربي ماضٍ في ترسيخ مبادئ الحكامة القضائية القائمة على سيادة القانون واحترام الحدود الإجرائية، وأن استقلال السلطة القضائية لا ينفصل عن مسؤوليتها في حماية مبدأ استقرار الأحكام وضمان التوازن بين الحق في التقاضي ومقتضيات الأمن القانوني. وهو ما يجعل هذا القرار الاستئنافي من العلامات البارزة في مسار تحديث الاجتهاد القضائي المغربي، الذي يولي الأولوية لترشيد استعمال المساطر الاستثنائية وتكريس مفهوم العدالة المؤسسية القائمة على اليقين القانوني.
وفي النهاية، يمكن القول إن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء قدّمت من خلال هذا القرار نموذجاً راقياً في التفسير القضائي لمفهوم إعادة النظر، وأرست قاعدة صلبة مفادها أن العدالة ليست في فتح النزاعات دون نهاية، بل في قدرتها على إغلاقها بشكل عادل ومستقر، ضماناً للطمأنينة القانونية، وصوناً لهيبة
القضاء، وترسيخاً لثقة المواطن في العدالة المغربية.
غير أن ما يميز هذا القرار هو أنه لم يؤسس لاجتهاد قضائي جديد بقدر ما جسد تطبيقا صارما لمقتضيات القانون، إذ استندت المحكمة إلى مبدأ أصيل في الفقه والقضاء مفاده أنه “لا اجتهاد مع وجود النص”. فالقرار لم يبتكر قاعدة جديدة، بل التزم بحرفية النصوص القانونية الواضحة التي تنظم مسطرة إعادة النظر، وطبقها تطبيقا
مباشرا، على اعتبار أن الاجتهاد القضائي لا يكون إلا عند وجود غموض أو نقص في النص، أما عندما يكون النص واضحا وصريحا فلا مجال للاجتهاد أو التأويل، بل يتعين التقيد بما يمليه النص القانوني مباشرة. وهو ما يؤكد أن المحكمة لم تتوسع في التفسير، وإنما فعّلت المقتضيات التشريعية كما أرادها المشرع حفاظا على استقرار الأحكام ومنعا لأي تعسف في استعمال مسطرة إعادة النظر.
ذ.محمد الطرشي
محامي بهيئة الدار البيضاء

