نقاش حول العلمانية ..جهل بالمفهوم و تطبيق في الواقع

نشر في: آخر تحديث:

بقلم الأستاذ مصطفى أمجكال – مدرب وفاعل جمعوي

منذ عقود و مفهوم العلمانية  لم يراوح مكانه من خانة التعريف القديم و البسيط بين ارباب الفكر السلفي التقليدي و المختصر في جملة واحدة : العلمانية هي فصل الدين عن الدولة . ومنذ عقود أيضا و هذا المفهوم يعرف تطورات متعددة ونقاشات مستفيضة و حوارات جادة  بين المفكرين و العلماء .. جعلت منه يتشكل حسب الظروف و المستجدات و الوقائع .

اليوم حين نسمع من يقول : العلماني كافر مثلا  ، ينتابني الذهول و الاستغراب ، و اضع السؤال مباشرة : عن أي علماني يتحدث هذا الرجل ؟؟ و ما هي العلمانية التي يتخيلها كفر ؟ وما علاقة العلمانية بمجال الإيمان و الكفر ؟ و أسئلة كثيرة دقيقة محيرة مفادها في اخر المطاف أن قائل تلك العبارة الضخمة  – العلماني كافر – إما أنه خارج دائرة الفكر الإنساني و لا يواكب تطورات المفاهيم و بالتالي تطورات التطبيقات ، أو أنه رجل مقلد جامد لا يؤمن بالتحولات و المستجدات و لا يزال يعيش في الحاضر بعقلية الماضي السحيق .

لعل ما يجعل بعض الشباب  اليوم يعيش الجمود الفكري و يسبح في دائرة التقليد هو عدم إيمانه بالمتغيرات و النسبية و التجربة الانسانية المرهونة بالظروف و الوقائع في كل الأزمة ، حتى في زمن النبوة و الخلافة الراشدة و ما بعدها . هذا الجمود الذي جعل البعض يتصور أن كل شيء قد حسم بالنص، و لا مجال للاجتهاد و التطور و خاصة  في مجال السياسة و الحكم و تدبير شؤون الدولة ، و ربما غفل أو تغافل عن حقيقة تاريخية مهمة جدا أن تجربة الخلافة الراشدة نفسها كانت تجربة انسانية اجتهادية و لا علاقة لها بالنص الديني مطلقا . إن هذا الطرح التقليدي الجامد جعل النظرة لكل فكرة جديدة تصنف في خانة البدعة والضلالة و إن كانت لا علاقة لها بمجال العبادة و مضاهاة الشريعة .

من ضمن هذه المفاهيم التي لقيت حربا  شرسة ، مفهوم العلمانية . بل عقدت مناظرات عالمية بين مفكرين و علماء تحت عنوان :  العلمانية و الاسلام ، و كأن العلمانية دين سماوي جديد جاء ينازع الإسلام في وجوده و أحكامه ، أو أنها تدين وضعي دنيوي الهدف منه تقويض الإسلام و محوه . و المتتبع لهذا النقاش منذ عشرات السنين سوف يجد أنها عملية مد و جزر بين المفكرين و الدعاة جعلت مفهوم العلمانية لا يقف على معنى واحد مضطرد ، بل لا يزال يتشكل عبر السنين من خلال التطبيق والممارسة .  فعلمانية فرنسا مثلا ليس هي علمانية بريطانيا و لا هي علمانية تركيا أو ماليزيا.. فالجميع يتقاسم المفهوم و الشعار لكن عند التنزيل تختلف الحدود و الممارسات . إننا نتحدث عن آلية و ليس مجدر فكر قابل لأن يصنف بين خانتين : الكفر أو الإيمان .

فعندما طرحت العنوان للنقاش قبل المقال ، كنت واعيا تماما بأن معظم مشايخ الدعوة السلفية اليوم و من ورائهم الشباب المقلد في الغالب لا يبرح في تعريفه للعلمانية عن المفهوم التقليدي الكلاسيكي العام : العلمانية هي فصل الدين عن الدولة ، و بالتالي لازال الكثير يعيش نفس الصراع القديم الذي خاضه طبقة العلماء ضد تسلط الكنيسة في اوروبا و غيرها . 

إننا إذا أردنا أن نكون موضوعيين في الدراسة و البحث حول أي مفهوم من المفاهيم الفكرية أو الدينية أو السياسية لا بد من تتبع المسار التاريخي لهذا المفهوم و خاصة التطبيقات عبر الدول ، فاليوم لا مجال لتصنيف الليبرالية في خانة واحدة مثلا ، فنحن أمام ليبرالية اقتصادية و ليبرالية سياسية و أخرى اخلاقية … و نحن اليوم أمام مفاهيم جديدة عن الديمقراطية الشعبية و الاجتماعية و مفاهيم حول الدولة المدنية و فصل السلط و نحن أيضا أمام مفاهيم جديدة جدا عن العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة كما هو في طرح المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمه الله .

علاقة بالعنوان دائما و حتى لا ابتعد كثيرا ، لماذا اليوم نحارب بعض المفاهيم و كأنها تعاريف مجردة عن الممارسة والتطبيق ؟ أو بعبارة أدق : لماذا نحارب المصطلحات و نمارس حياتنا وفق مخرجاته و أهدافه سواء المعلنة أو الخفية ؟

الجواب قد لا يكون واضحا جدا إلا من خلال نظرة تفكيكية للحياة و الممارسات وفق المفهوم و مخرجاته العملية ، وهنا يحق لنا نحلل بشيء من البساطة و نعيد السؤال بصيغة أخرى : 

من هو العلماني اليوم ؟    

في تركيا مثلا العلماني هو رجب طيب أردوغان ، رجل مسلم حامل لكتاب الله يؤدي الفرائض في وقتها ويحج بين الله و يعتمر .. لكنه سياسي ينظر بمنظور المصلحة العليا للدولة التركية التي ارسى قواعدها كمال أتاتورك حيت الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية و العلاقات الدولية مع أي دولة كانت حتى إسرائيل و لو بشكل خفي غير معلن ….

العلماني اليوم في فرنسا هو الذي يؤمن بمبادئ الدولة الفرنسية  العريقة : الحرية والعدالة والمساواة ، فالكل يمارس حقوقه الدستورية بكل مسؤولية و لا مجال لتدخل المتدين في غير المتدين .. الكل يعامل بمبدأ المواطنة و الحقوق والواجبات  ، مع الاعتراف بأن علمانية فرنسا أكثر حدة في التطبيق و التضييق على المسلمين من غيرها في بعض الدول ، لكن يبقى للسياسة الأثر الاكبر في هذه الحدة .

اليوم كلنا مع الدستور المغربي لسنة 2011 و الذي ينص على الديمقراطية البرلمانية ومبدأ فصل السلط والتمايز و التكامل بين السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية مع ضمان بقاء المجال الديني تحت رئاسة أمير المؤمنين باعتباره الضامن للحريات و المعتقدات و العدالة بين المسلمين و كل الطوائف الدينية في المغرب . ولعل هذا التنظيم ما يميز الدولة المغربية في تنزيل مفهوم العلمانية الحديث كآلية من اليات تدبير الحكم و السلطة .

في المجال التطبيقي المباشر  بالمعيش اليومي و من خلال رصد  – الحياة العلمانية – في الكثير من  المظاهر الحياتية ، فليس الأمر عبثا أن نعيش اليوم داخل الأسواق العالمية و فضاءات التسوق الدولية التي عبرت القارات و اخترقت حياتنا اليومية و صارت فضاء للتبضع و الاستجمام والراحة ، سواء بسواء ذلك الانسان المتدين الملتزم ذو اللحية و التقصير أو الرجل بربطة العنق الحمراء ،أو تلك المنتقبة  المتدينة او صاحبة الموضة العالمية و اللباس السافر .. الكل يمارس حياته بكل حرية متجولا بين الماركات و العلامات الدولية و ربما يسوق لها دون أن يعي أنه صار لوحة إشهار يروج منتوجا أمريكا أو فرنسا على صدره أو حذائه … المهم الكل مقتنع بان الحياة الجديدة منحت الراحة و الرفاه و حققت الكثير من الامتيازات و الكل يسعى نحو تطويرها و شمولها لتعم الجميع .

لقد صارت المفاهيم اليوم آليات تطبيقية مرتبطة بشكل كبير بالعرض و الطلب ، خصوصا في زمن الرأسمالية واقتصاد السوق ، فلا داعي لاختلاق حرب مصطلحات نعقد عليها الكفر و الايمان و الولاء والبراء و حروبا دينية طاحنة ،  فقد تطورت المفاهيم و التطبيقات في الحين الذي أختار البعض منا الجمود و التقليد.

اقرأ أيضاً: