الرئيسية آراء وأقلام نحو ترشيد و تجويد الأحكام القضائية

نحو ترشيد و تجويد الأحكام القضائية

HICHAM.jpg
كتبه كتب في 11 يناير، 2018 - 12:55 صباحًا

يعتبر موضوع تجويد الأحكام القضائية أحد المداخل الأساسية لترشيد العمل القضائي و تحقيق النجاعة القضائية ضمن منظومة شاملة للحكامة القضائية تبدأ من تسهيل الولوج إلى العدالة و تبسيط الإجراءات القضائية إلى استصدار حكم قضائي في زمن معقول و تنفيذه ضمن أيسر السبل.
و تطرح قلة عدد القضاة و ضغط الملفات عليهم أزمة حقيقية تنعكس بالضرورة على جودة المنتوج القضائي، لذا طرحت بعض الجمعيات المهنية القضائية مؤخرا مشكل تحرير الأحكام القضائية و ما إذا كان بالإمكان التفكير بشكل جدي في طريقة جديدة للتحرير تخفف على القاضي بعض المعاناة دون أن تؤثر على صحة الحكم من الناحية القانونية و جودته من الناحية الواقعية و العملية، استرشادا ببعض التجارب القضائية المقارنة.
و قد خلص نقاش المهتمين بصفة عامة إلى ابتكار منهجيتين : الأولى تفوض مسألة تحرير الوقائع إلى جهات أخرى غير القضاة المكلفين بإصدار الحكم من قبيل موظفين مؤهلين للقيام بهذه المهمة. و الثانية تعتمد على إعفاء القاضي منة تضمين الوقائع في الأحكام باعتبارها تشكل ثلثي الحكم القضائي و الاكتفاء بالإحالة على المذكرات و الوثائق المدلى بها في الملف.
و الواقع أن لكل من المنهجيتين سلبيات ؛ فالمنهجية الأولى التي تقوم على التفويض قد تنطوي على صعوبات عملية من قبيل ضرورة توظيف أطر مؤهلة خاصة بتحرير وقائع الأحكام و هو ما سيكلف خزينة الدولة ميزانيات إضافية ، كما أنه قد ينتج عنها تجزيئ لوحدة الحكم القضائي بحيث ينسب شق منه إلى صناعة الموظف و شق آخر إلى صناعة القاضي، و الحال أن الحكم القضائي يشكل وحدة واحدة لا تقبل التجزئة، و لنا أن نتساءل عن المسؤولية الناتجة عن عيب صياغة تحرير الوقائع مثلا هل تعتبر مسؤولية عن خطأ قضائي أم مسؤولية عن خطأ الموظف العمومي؟ كذلك عندما يقع تحريف في عرض الوقائع و بسطها هل يعتبر ذلك مؤثرا في صحة الحكم القضائي بالرغم من سلامة التعليل و المنطوق علما بأن توجه محكمة النقض مستقر على أن تحريف الوقائع يعتبر سببا موجبا للنقض.
بالإضافة إلى ذلك فإن منهجية التفويض قد ينتج عنها تعدد المخاطبين و تعدد الالتزامات بحيث يخضع الموظف المكلف بالتحرير إداريا لرقابة كل من الهيئة القضائية المصدرة للحكم و كذا رئيس كتابة الضبط و رئيس المحكمة. و يتعين أن يلتزم بنفس الواجبات المفروضة على القضاة من قبيل كتمان سرية المعلومات القضائية و الامتناع عن الإضراب و من تعطيل العمل.
أما منهجية الاستغناء عن الوقائع و الاكتفاء بالإحالة على وثائق الملف فإنها تنطوي على مخالفة صريحة لنص القانون و خاصة المادة 50 من قانون المسطرة المدنية التي تنص على أن الأحكام : تتضمن أيضا الاستماع إلى الأطراف الحاضرين…. و يشار فيها إلى مستنتجات الأطراف مع تحليل موجز لوسائل دفاعهم و التنصيص على المستندات المدلى بها….
كما أن مجرد خلو الحكم من عرض وقائع قد يكون لها أثر قانوني على وجه الحكم يعتبر سببا للنقض حسب ما استقرت عليه محكمة النقض باعتبار ذلك من أوجه نقصان التعليل الموازي لانعدامه.
بالإضافة إلى ذلك فإن مبدأ الكفاية الذاتية للحكم القضائي يتعارض مع بتر وقائعه و التي تشكل عنصرا أساسيا يساعد المطلع على فهم الحكم و الاقتناع به.
لكل هذه الأسباب أعتقد أن الطريقة الناجعة للتخفيف على القاضي من عبئ تحرير الأحكام يستدعي بالضرورة تدخلا تشريعيا صريحا في قوانين المسطرة المدنية و الجنائية و التنظيم القضائي يعدل من هيكلة الحكم و بياناته الأساسية أو يوكل مهمة تحرير الوقائع بل و تحرير مشروع بعض الأحكام المنمذجة ـ من قبيل قضايا المخالفات و الحالة المدنية ـ إلى هيئة خاصة من الموظفين. و ذلك بعد مناقشة إيجابيات و سلبيات كل طريقة مع باقي المتدخلين في منظومة العدالة و خاصة القضاة و كتاب الضبط و المحامون، مع العمل على تسريع وتيرة التحديث و استغلال البرمجيات الإعلامية و الالكترونية في خدمة المنتوج القضائي.
عدا ذلك ـ و في ظل التنظيم القانوني الحالي ــ تبقى مسألة التكوين و التكوين المستمر للقضاة هي الوسيلة الناجعة لضمان تحرير حكم قضائي سليم لا يغفل الوقائع الأساسية و في نفس الوقت يعمل على اختصارها و إيجازها بالشكل الصحيح و المعقول الذي يوفر الجهد و الوقت و المادة و لا يخل بالبيانات الأساسية للحكم القضائي. و لنا في قرارات محاكم الاستئناف و محكمة النقض نماذج مجسدة لكيفية تلخيص الوقائع بشكل سليم. و الأكثر من ذلك فإن ما ينطبق على الوقائع ينطبق على التعليل حسب توجه محكمة النقض الذي يعفي محاكم الموضوع من الجواب على الدفوع غير الجدية و غير المؤثرة.
لذا فإن مسؤولية الدولة في مساعدة السلطة القضائية من أجل القيام بإحدى مهامها الأساسية المتمثلة في توفير الأمن القضائي للمواطنين يستوجب بالضرورة التفكير في آليات تشريعية و مادية و بشرية كفيلة بتخفيف العبئ على القضاة من أجل ضمان تصريف العدالة بشكل أكثر نجاعة و أكثر فعالية.
هشام العماري.
بتاريخ 10 يناير 2018.

مشاركة