مرة ثانية يختار الملك محمد السادس خطابه الموجه إلى عموم المغاربة للتركيز على البعد الاستراتيجي لقرار العودة إلى أحضان إفريقيا، بعد قطيعة دامت عقودا من الزمن، مهاجما، لأول مرة، من يدفعون في اتجاه أن هذه السياسة المغربية تأتي على حساب التنمية الداخلية، مبرزا في الوقت نفسه أن العلاقة التاريخية التي تجمع الرباط بعواصم دول القارة السمراء تتجاوز المنطق الربحي، لتلامس “التاريخ المشترك” و”وحدة المصير”.
وشدد الملك على أن توجه المغرب نحو إفريقيا “لم يكن قرارا عفويا، ولم تفرضه حسابات ظرفية عابرة، بل هو وفاء لهذا التاريخ المشترك، وإيمان صادق بوحدة المصير. كما أنه ثمرة تفكير عميق وواقعي تحكمه رؤية استراتيجية اندماجية بعيدة المدى، وفق مقاربة تدريجية تقوم على التوافق”، مسجلا أن سياسة المغرب القارية “ترتكز على معرفة دقيقة بالواقع الإفريقي..والمصالح المشتركة، من خلال شراكات تضامنية رابح-رابح”.
وذكّر الخطاب بالمشاريع التنموية الكبرى التي أطلقها الجالس على العرش، كأنبوب الغاز الأطلسي نيجيريا-المغرب، وبناء مركبات لإنتاج الأسمدة بكل من إثيوبيا ونيجيريا، وكذا “إنجاز برامج التنمية البشرية لتحسين ظروف عيش المواطن الإفريقي، كالمرافق الصحية ومؤسسات التكوين المهني وقرى الصيادين”، مؤكدا أن هذه الخطوات تكللت “بتعزيز شراكاتنا الاقتصادية، ورجوع المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، والموافقة المبدئية على انضمامه للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا”.
ويأتي تجديد الملك في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب دعم التوجه نحو إفريقيا، في سياق منعطف جديد تعرفه قضية الصحراء المغربية، بتعيين الأمين العام للأمم المتحدة لمبعوثه الجديد، الرئيس الألماني السابق هورست كولر، بديلا لكريستوفر روس، المستقيل قبل أشهر من هذه المهمة، مذكرا بأن سياسة العودة إلى العمق الإفريقي من شأنها دعم هذه القضية، في سياق ما يحظى به مقترح الحكم الذاتي من قبول أممي.
إدريس الكريني، أستاذ العلاقات الدولية، أوضح في تعليقه على مضامين الخطاب الملكي أنه بالرغم من أن الحيز الأكبر للخطاب تناول التوجه المغربي نحو إفريقيا، بما يحمله من دلالات ورهانات وسياقات، “ففي عمق هذه المسألة يمكننا أن نستشف حضور موضوع التنمية، وكذلك الدبلوماسية الجماعية والمنفتحة، إلى جانب قضية الوحدة الترابية الحاضرة باعتبارها إحدى أهم رهانات هذا التوجه”.
مدير مختبر الدراسات الدولية حول تدبير الأزمات أضاف، في تصريح لهسبريس، أن الملك أكد في خطابه على أن هذا التوجه ليس ظرفيا أو مرحليا بقدر ما هو توجه استراتيجي يستمد أساسه من العلاقات الاقتصادية والشراكات المختلفة التي راكمها المغرب رغم خروجه من منظمة الوحدة الإفريقية في منتصف الثمانينيات، بالإضافة إلى المساهمة المهمة للمغرب في تدبير مجموعة من الأزمات الإفريقية، سواء بصورة فردية أو في إطار ترتيبات إقليمية ودولية، كما هو الشأن خلال مساهمة المغرب ضمن عمل القوات الأممية لحفظ السلام.
المثير في الخطاب الملكي بشأن التوجه القاري للمملكة هو مهاجمته لأصحاب التوجه الذي يعتبر أن تكلفة العودة الإفريقية باهظة، وتأتي على حساب التنمية، وهو ما اعتبره لكريني مؤشرا على مدى وعي المؤسسة الملكية بما يجري من نقاشات على المستوى الأكاديمي والإعلامي والسياسي، بما فيها الآراء التي جاء الخطاب الملكي لتفنيدها، “منبها إلى عدم جدوى التعاطي معها بهذه النظرة القاصرة، ومؤكدا في الوقت نفسه على أن الأمر في عمقه يخدم المصالح الاقتصادية المغربية والتوجهات الاستراتيجية، في عالم أصبح يضيق فيه الفاصل بين الداخلي والخارجي”، يقول لكريني.
إلى جانب ذلك، ستكون لهذا التوجه الإفريقي، بحسب لكريني دائما، انعكاسات إيجابية على قضية الوحدة الترابية، “على اعتبار أن إفريقيا اليوم تحتضن أزيد من 50 دولة، إذا استحضرنا وزن هذه الدول داخل منظمة الأمم المتحدة، وأيضا إذا استحضرنا معطى تجاوز الصوت الوحيد الذي ظل يرتفع داخل الاتحاد الإفريقي وفي العديد من المناسبات القارية”.
الملك شدد في خطابه على أن عودة المغرب إلى المؤسسة القارية يشكل منعطفا دبلوماسيا هاما في السياسة الخارجية للمغرب، “وهو نجاح كبير لتوجهنا الإفريقي رغم العراقيل التي حاول البعض وضعها في طريقنا. وهو أيضا شهادة من أشقائنا الأفارقة على مصداقية المغرب ومكانته المتميزة لديهم”، منوها في الوقت نفسه بعمل الآلة الدبلوماسية المغربية.
لكريني يرى أن في ذلك إشارة لاستيعاب متطلبات عالم اليوم، عبر التأكيد على أن الدخول الرسمي إلى الاتحاد الإفريقي هو بداية تتطلب مجموعة من المبادرات؛ أهمها الدبلوماسية الاقتصادية، من شركات ومقاولات ورجال أعمال، والدبلوماسية المحلية، من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، إلى جانب الدبلوماسية الروحية.
وأبرز أن الأمر يتعلق بمهمة جماعية، كما جاء في الخطاب، “عندما أكد على أن الدبلوماسية تسائل مختلف الفعاليات”، مشيرا إلى أن “الدبلوماسية الرسمية فتحت الأبواب، عبر الزيارات الملكية المكثفة إلى عدد من الدول، والمشاريع والاتفاقيات الضخمة التي تم إبرامها، الشيء الذي يتطلب تعزيزه ومواكبته بمبادرات موازية”، بتعبير لكريني.