الرئيسية آراء وأقلام حين صار للتفاهة مسرح وجمهور: زمن الفن المبتذل وصعود الجهلاء

حين صار للتفاهة مسرح وجمهور: زمن الفن المبتذل وصعود الجهلاء

IMG 20250629 WA0031
كتبه كتب في 29 يونيو، 2025 - 4:48 مساءً

زينب الجعنين : باحث في سوسيولوجيا التربية

في زمن تتبدل فيه القيم وتذوب فيه المعايير، صعدت التفاهة إلى المنصة، لا لتؤدي دورًا هامشيًا في الحياة العامة، بل لتصبح هي النص وهي البطل وهي الجمهور في آنٍ واحد. لم يعد الفن تعبيرا راقيا عن الذات والهمّ الجمعي، ولا مرآةً تعكس وجدان المجتمع، بل أضحى مجرد “ترند” لحظي، يقاس بأعداد المتابعين، وعدد “القصص” المنشورة عن فنان يصرخ على الخشبة أكثر مما يغني، ويرتدي غرابة تفوق ما يحمله من معنى.

لم تعد القاعة تصمت لتستمع لكلمة شاعرٍ أو نغمة موسيقي، بل صارت تضجُّ بالصراخ والرقص والهواتف المرفوعة، كأن الفن اليوم لا يحتاج إلى عقل، بل إلى “لايف” يُبث، وهاشتاغ يُرفع، وتذكرة تشترى بثمن يومين من العمل الشاق في زمن الحد الأدنى للأجور.

إنها لحظة الانقلاب الثقافي، حين يتحول الجمهور العريض من متذوقٍ إلى مهلل، ومن ناقدٍ إلى راقص، ومن حامل لقضيةٍ إلى مستهلك للتفاهة. أصبحت المنصات الغنائية مخصصة لفنانين لا يحملون سوى قاموس الميوعة، يخاطبون شبابا تم تغييب وعيهم، ومحو تاريخهم، وسلبهم همومهم الاقتصادية والاجتماعية. فأين الحديث عن البطالة؟ أين صدى الهجرة والغلاء والإقصاء؟ ضاع كل ذلك وسط كلماتٍ بذيئة، وأداءٍ فوضوي، ووعودٍ زائفة بأن “الفن حر”، وكأن الحرية تبرّر الانحدار.

في هذا الزمن، لا يُغلق الشارع من أجل احتجاجٍ على الفقر أو التهميش، بل يُغلق لأن “رابور” صعد المنصة ليصرخ ببضع كلمات لا تعرف نحوا ولا صرفًا ولا معنى. تُعطى الملايين من ميزانية الشعب لمن لا يحمل مشروعا فنيا بينما تغلق دور الثقافة، ويُهمش المفكرون، وتُقصى الأصوات الجادة، ويستبدل الصوت الشجي بالضجيج.

لم يعد الفنان يحمل وجع الأمة، بل صار يصوّر حفلاته الفارهة وسط جمهورٍ دفع ثمن تذكرته من قوت يومه، لا حبافي الفن، بل هروبا من واقع مرير لا يجد له مخرجًا سوى “الطيران” مع موجة السطحية. والمفارقة أن هذا الفنان، الذي لا يملك من الثقافة إلا شهرة مزيفة، صار يُقدم في الإعلام كنجم، ويُستقبل كمبعوث فوقي، ويتحوّل إلى رمزٍ لجيل لم يُترك له خيار غير الإعجاب بالإسفاف.

النكسة ليست فقط في ما يُقدم على المنصة، بل في جمهور يصفّق دون وعي، ويهلّل لتفاهة تزداد كلما انخفض مستوى الكلمة، وتلاشت الرسالة، وذابت القيم. صار الفن غلافًا لفراغ كبير، يُبهر بالشكل ويُفجع بالمضمون.

نحن اليوم أمام مشهد مؤلم: حين يغيب الفن الراقي، وتُغلق الأبواب في وجه الشعراء والملحنين الكبار، ويبعد المفكرون، يفتح الباب على مصراعيه للجهلاء والبلداء. وحين يصبح المتفرج هو البهلوان، والفنان المبتذل هو من يشاهد الجمهور بسخرية، نعلم أننا دخلنا عصرًا جديدا…عصر التفاهة المقدسة.

في هذا الزمن، لا مكان للفكر، ولا لأهل الفن الحقيقي، بل لفن استعراضي لا يُخاطب إلا الغرائز، ولا ينتج إلا الضجيج. وحين يصبح هذا هو “الفن الوطني”، فاعلم أن الوطن قد أُصيب في روحه، وأن المعركة اليوم ليست فقط مع فنٍ هابط، بل مع ثقافة تتفرغ الإنسان من إنسانيته، وتستبدل الجمال بالاستهلاك، والمضمون بالفراغ، والوعي بالتكرار.

لقد آن الأوان لنقولها صراحة: لسنا ضد التجديد، لكننا ضد التهريج، ولسنا أعداء للشباب، بل نحن خصوم لمن أراد لهم أن يعيشوا دون قضية، وأن يرقصوا على أنقاض ما تبقى من ذوق وجمال. فالتفاهة ليست وجهة نظر، بل نتيجة تخطيط… والفن الساقط ليس عفويًا، بل سياسة.

وإن لم نستفق قريبا، فسنعرف يوما ما أننا لم نكن نحارب مجرد أغنية مبتذلة، بل كنا نحارب موت الوعي، واحتضار الذوق، واغتيال الثقافة.

مشاركة