الرئيسية أخبار فنية حين تطرق الخشبةُ أبوابَ الزنازين: مسرح “الغميضة” يزرع الفرح في السجن المحلي ببني ملال.

حين تطرق الخشبةُ أبوابَ الزنازين: مسرح “الغميضة” يزرع الفرح في السجن المحلي ببني ملال.

IMG 20251223 WA0118
كتبه كتب في 23 ديسمبر، 2025 - 9:54 مساءً

في لحظةٍ نادرة، اختلط فيها الصمتُ الثقيلُ للأبواب الحديدية بصخب الضحك، وتجاور فيها الانتظار الطويل مع ومضة الفرح العابر، حلّت فرقة لاكوميدي ضيفةً على السجن المحلي ببني ملال، حاملةً معها عرضها المسرحي “الغميضة” من إخراج الفنان الشرقي سروتي، وذلك يوم الخميس 05 دجنبر 2025. لم يكن الحدث عاديًا في سياقه ولا مألوفًا في رمزيته؛ فقد تحوّل فضاء العقوبة إلى مسرح، وتحولت النظرات المرهقة إلى نوافذ دهشة، وتحوّل الزمن، ولو لبرهة، من زمنٍ مؤجَّل إلى لحظة حياة كاملة.

جاء هذا النشاط الثقافي في إطار دينامية شهرية وازنة، شهدت خلالها المؤسسات السجنية انفتاحًا متدرجًا على الفعل الثقافي والفني، باعتباره رافعة أساسية لإعادة الإدماج، وأداةً ناعمةً لترميم الإنسان من الداخل. وفي هذا السياق، بدا عرض “الغميضة” كأنه فعلٌ رمزي بليغ؛ مسرحية عن الاختباء والظهور، عن الهروب والمواجهة، عن الإنسان حين يراوغ ذاته، قبل أن يصطدم بحقيقته.

منذ اللحظات الأولى لانطلاق العرض، ساد فضاء القاعة صمتٌ مختلف، ليس صمت الانضباط المفروض، بل صمت الترقّب. كانت الخشبة بسيطة في تجهيزها، لكنها عميقة في دلالتها، واعتمدت المسرحية على أداء جسدي مكثف، وحوار ذكي، وسخرية ناعمة تُضحك بقدر ما تُفكّر. لم يكن الضحك هنا ترفًا، بل كان ضرورة نفسية، وانفراجًا داخليًا، ومتنفسًا جماعيًا نادرًا.

أبان المخرج الشرقي سروتي عن حسٍّ إنساني رفيع في تعامله مع الجمهور السجني، إذ لم يُقدِّم عرضًا من علٍ، ولم يسقط في خطاب الوعظ أو الشفقة، بل راهن على ذكاء المتلقي، وعلى قدرته على التقاط الرمز، وقراءة الإيحاء، والتفاعل مع الأسئلة المؤجلة. فـ“الغميضة” لم تكن مجرد لعبة مسرحية، بل استعارة مفتوحة عن الحياة حين تُمارَس داخل حدودٍ ضيقة، وعن الإنسان حين يختبئ من واقعه، لكنه يظل مرئيًا أمام ضميره.

تفاعل النزلاء مع العرض كان لافتًا، سواء عبر الضحك الجماعي، أو عبر لحظات الصمت المشحون، أو حتى من خلال نظراتٍ كانت تقول أكثر مما يُقال. لقد بدا واضحًا أن المسرح، حين يُقدَّم بصدق، قادر على اختراق الجدران السميكة، وعلى إعادة ترتيب المشاعر، ولو مؤقتًا. فالفن، في مثل هذه السياقات، لا يُقاس بمدى الإبهار التقني، بل بعمق الأثر الإنساني.

ولا يمكن الحديث عن نجاح هذا الحدث دون الإشارة إلى الدور المحوري الذي قامت به المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، التي ما فتئت تُراكم مبادرات نوعية في مجال الثقافة والفن داخل المؤسسات السجنية، إيمانًا منها بأن إعادة الإدماج ليست مسألة قانونية فحسب، بل مسار إنساني متكامل. كما يندرج هذا النشاط ضمن دعم وزارة الشباب والثقافة والتواصل، التي تواصل، رغم التحديات، الدفع بالفعل الثقافي نحو الفضاءات غير التقليدية، حيث تكون الحاجة إليه أكثر إلحاحًا.

وقد أسهم المدير الجهوي للثقافة، إلى جانب إدارة السجن المحلي ببني ملال، بأطرها وموظفيها، في إنجاح هذا الموعد الفني، سواء من حيث التنظيم أو من حيث توفير الشروط الملائمة لمرور العرض في أجواء يسودها الاحترام والانضباط. كما لا يمكن إغفال انخراط النزلاء أنفسهم، الذين كانوا شركاء حقيقيين في هذا الحدث، لا مجرد متفرجين عابرين.

ما ميّز هذا الشهر، في سياق الأنشطة الثقافية داخل السجون، هو هذا الوعي المتنامي بأن الثقافة ليست ترفًا مؤجلًا، بل حقٌّ إنساني، وضرورة إصلاحية، وأفقٌ ممكن لتجديد العلاقة بين الفرد والمجتمع. فالمسرح، هنا، لم يكن وسيلة للترفيه فقط، بل كان أداةً لإعادة طرح الأسئلة الكبرى: من نحن؟ ماذا نُخفي؟ ومتى نملك شجاعة الظهور؟

لقد غادرت فرقة لاكوميدي أسوار السجن، لكن أثر العرض ظلّ عالقًا في الذاكرة الجماعية للنزلاء، وفي تفاصيل اليوميات الثقيلة. وربما، في مكانٍ ما، أعاد أحدهم التفكير في حياته، أو ضحك من قلبه لأول مرة منذ زمن، أو شعر، ولو للحظة، أنه ما زال مرئيًا، وما زال جزءًا من هذا العالم.

إن مثل هذه المبادرات، حين تُراكم وتُصان، قادرة على إحداث فرق حقيقي، لا يقاس بالأرقام، بل بالتحولات الصامتة في الداخل الإنساني. فالله يفرّج على الجميع، وتبقى الثقافة، في نهاية المطاف، واحدة من أنبل السبل إلى الحرية، حتى داخل أكثر الأماكن انغلاقًا.

مشاركة