الرئيسية آراء وأقلام جدلية الاختيار في التصويت: بين حرية الإرادة ومساءلة الوعي.

جدلية الاختيار في التصويت: بين حرية الإرادة ومساءلة الوعي.

IMG 20241203 WA0090
كتبه كتب في 3 ديسمبر، 2024 - 10:42 مساءً


بقلم: معاذ فاروق

إن فعل التصويت ليس مجرد استجابة ميكانيكية لنظام ديمقراطي، بل هو في حقيقته اختبار مزدوج: اختبار لحرية الإرادة الفردية، واختبار لمدى عمق وعي الجماعة بآفاقها الحضارية. حين يقف الفرد أمام لحظة الاختيار، فإن الزمن، بكل ثقله، يتكثف في لحظة واحدة؛ لحظة تتجاوز حدودها الزمنية لتغدو نقطة اتصال بين الماضي الحامل للأخطاء والدروس، والحاضر المشبع بالممكنات، والمستقبل المجهول الذي تنتظره التبعات.الحاضر، بكل تفاصيله وتعقيداته، ليس مجرد لحظة عابرة بين ماضٍ ومستقبل، بل هو وعاء تتلاقى فيه الرؤى والتحديات. الحاضر يحمل في طياته ثقل القرارات السابقة وتأثيرها، وهو كذلك منصة انطلاق نحو أفق مجهول تُصنع ملامحه عبر اختياراتنا. في لحظة التصويت، يصبح الحاضر مرآة تعكس التوازن أو الاضطراب بين الإدراك الفردي والجماعي. فهو الزمن الذي يواجه فيه الفرد نفسه، حيث تنكشف أبعاد الوعي بحقيقة احتياجاته، ومسؤولياته، ودوره في تشكيل معالم واقع متزن قادر على احتواء كل الاختلالات المحتملة، لكن هل الاختيار في ذاته حرٌ حقًا؟ أم أن الفرد يخضع في تلك اللحظة لضغوط قوى لا تُرى؟ القوى هنا ليست بالضرورة مادية، بل هي رواسب ثقافية، وتيارات عاطفية، وأصوات تعلو من أعماق اللاوعي الجماعي، تُوجِّه الاختيار دون أن يدرك الفرد ذلك. إن الفيلسوف حين يتأمل هذه اللحظة، لا يرى ورقة تُلقى في صندوق، بل يرى مواجهة بين العقل كأداة تحليلية، والوجدان كمنظومة مشحونة بالأهواء.حسن الاختيار في التصويت ليس فعلًا تقنيًا، بل هو أشبه برحلة وجودية يمر بها الفرد؛ رحلة يتعرى فيها من نزواته الضيقة ليعيد صياغة ذاته كمواطن يُدرك أن قراره جزء من نسيج أكبر، نسيج يتحرك في مدار التاريخ والحاضر معًا. وهنا تكمن المعضلة: كيف يمكن للفرد، وهو محاصر بعوامل التوجيه العلنية والخفية، أن يبلغ لحظة الصفاء الذهني التي تؤهله لاتخاذ قرار يستحق أن يُطلق عليه “حسن الاختيار”؟إن الجواب لا يكمن في المعرفة وحدها، بل في نوع خاص من الوعي النقدي، وعي لا يقف عند حدود السؤال: “ماذا أريد؟” بل يتجاوزه إلى سؤال أعمق: “ما هي المآلات التي سيؤول إليها هذا الاختيار؟” فالاختيار السطحي يقود إلى حاضر ممتلئ بالإرتجال ومقرون بهضم الحقوق وعيش غير كريم وتكريس لظاهرة استفحال الفساد في كل تجلياته، أما الاختيار المدروس فهو استثمار قرار معقلن في حاضر ومستقبل أكثر اتزانًا وعلى الرغم من أن الديمقراطية تُسوَّق عادةً على أنها أداة لمنح الحرية، إلا أن هذه الحرية تظل شكلية ما لم تُمارس داخل إطار معرفي عميق، فالحرية بلا وعي تصبح عبئًا على حاملها، وتتحول إلى وقود لعجلة العبث. من هنا، يتحتم على الفرد أن يتحلى بقدرة مزدوجة: أن يفهم الواقع بأبعاده المتشابكة، وأن يتجاوز هذا الفهم نحو رؤية تستشرف الممكنات غير المرئية.حسن الاختيار في التصويت هو، في جوهره، فعل فلسفي بامتياز. إنه يتطلب من الفرد أن يتساءل باستمرار: “ما الذي أختاره حقًا عندما أصوّت؟” فهو لا يختار اسمًا أو حزبًا فحسب، بل يختار صورة ضمنية لمستقبل الأمة، وللمعايير التي يرغب في أن تسود. الاختيار هنا ليس قرارًا معزولًا، بل هو تعبير عن رؤية وجودية تتصل بكيفية فهم الفرد لدوره في الكون، ولمعنى المسؤولية الجماعية، حيث الحاضر يلعب دور الوسيط النشط بين الذاكرة والخيال.وفي نهاية المطاف، تظل جدلية الاختيار مفتوحة، كما لو أنها سؤال لا يقبل الإجابة النهائية. فحسن الاختيار لا يمكن أن يُختزل في فعل أو لحظة، بل هو مسار دائم من التفاعل بين الفكر والإرادة، بين الذات والآخر، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.

مشاركة