صوت العدالة : محمد زريوح
في الوقت الذي كان يُفترض أن يكون حفل التخرج في المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة ابن طفيل بمثابة لحظة فخر واعتزاز بالمجهودات الأكاديمية والتفوق العلمي، تحوّل هذا الحدث إلى مصدر تساؤلات كبيرة حول أولويات الجامعة واختياراتها. الحفل الذي كان من المفترض أن يعكس روح التفوق العلمي والعطاء الأكاديمي، أصبح نقطة انطلاق لمناقشة قضايا جوهرية تمس أساسيات دور الجامعة في المجتمع. بدلاً من تكريم الأكاديميين الذين بذلوا وقتهم وجهدهم في إعداد وتوجيه الطلاب، تم تكريم مغنٍ وراقصة قبل أن يعتليا المنصة، بينما ظل عدد من الأساتذة الجامعيين ينتظرون تعويضاتهم المستحقة عن أعمال علمية وبيداغوجية تم إنجازها منذ أكثر من أربع سنوات.
هذا المشهد الغريب يعكس خللاً في رؤية إدارة الجامعة لما يجب أن تكون عليه أولوياتها، وخصوصًا في ما يتعلق بتقدير جهود الأساتذة والحرص على حقوقهم. يظهر من خلال هذا الوضع أن الجامعة تولي اهتمامًا أكبر للأمور الترفيهية والترويجية على حساب احتياجات أعضاء هيئة التدريس الذين يشكلون قلب العملية التعليمية. والأكثر من ذلك، أن هذه التصرفات لا تقتصر على إهدار الموارد المالية فقط، بل تمس القيم التربوية التي من المفترض أن ترتكز عليها أي مؤسسة أكاديمية، بل وكل مجتمع يسعى للارتقاء بالعلم والتعليم.
أصدرت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان بيانًا أدانت فيه ما وصفته بـ”الابتذال” الذي طبع حفل التخرج في جامعة ابن طفيل. وفي البيان، شددت الرابطة على أن الجامعة هي مؤسسة أكاديمية وليست ساحة لعرض الفنون والترفيه، وهي معقل للعلم ومنبع للنخب التي تسهم في تطور المجتمع. واعتبرت أن ما حدث في الحفل لا يمكن تصنيفه على أنه مجرد هفوة تنظيمية عابرة، بل هو مؤشر على انحراف جوهري في فهم دور الجامعة ورسالتها. فالجامعة، كما أكد البيان، يجب أن تكون فضاء لتعليم الطلاب وتطويرهم على أسس علمية وأخلاقية راسخة، ولا يمكن لها أن تُختزل إلى مجرد ساحة ترفيهية.
فيما يتعلق بالجانب المالي، تزداد التساؤلات حدة حول كيفية توزيع الميزانية داخل الجامعة. فقد تم صرف التعويضات الخاصة بالعروض الفنية والموسيقية بسرعة دون تأخير، في حين أن مستحقات الأساتذة الجامعيين تم تجميدها لسنوات طويلة. هذا التباين في التعامل مع الأموال يظهر خللاً بنيويًا في أولويات إدارة الجامعة، حيث تم منح الأولوية للأمور التي لا تعود بالفائدة المباشرة على الطلبة أو على المجتمع الأكاديمي. هذا الوضع لا يعكس فقط ضعفًا في التخطيط المالي، بل أيضًا قلة الاهتمام بالأدوار الحيوية التي يؤديها الأساتذة في تطوير العملية التعليمية.
يُضاف إلى ذلك، أن هذه الفوضى الإدارية أدت إلى حالة من الإحباط والخذلان في أوساط الأساتذة والطلاب على حد سواء. فقد عبر العديد من الأساتذة عن استيائهم من هذه المعاملة التي لا تليق بمكانتهم الأكاديمية، حيث تم تجاهلهم وتهميشهم مقابل عروض فنية قد تكون أقل تأثيرًا من العمل الأكاديمي الجاد. في المقابل، طالب الطلاب والأستاذة على حد سواء بضرورة تحسين وضع الأساتذة الجامعيين وإعطائهم حقوقهم كاملة، وكذلك احترام القيمة الحقيقية للعمل الأكاديمي.
من ناحية أخرى، أصبح التساؤل الأبرز في أذهان الكثيرين: كيف يمكن لمؤسسة أكاديمية أن تمنح الأولوية للعروض الفنية على حساب التعليم والمعرفة؟ كيف يُمكن القبول بحقيقة أن من يقومون بتعليم وتوجيه الأجيال يتم إهمالهم بينما يتم تكريم أشخاص ليس لهم علاقة مباشرة بالعملية التعليمية؟ إن تجميد مستحقات الأساتذة في مقابل صرف الأموال بشكل عاجل على الأنشطة الفنية لا يعكس فقط خللاً في إدراة الجامعة، بل يطرح تساؤلات حول مصداقية النظام التعليمي نفسه.
هذا الوضع أصبح يدعو إلى فتح تحقيقات جادة وشفافة، ليس فقط للوقوف على المسؤولين عن الحفل، بل لتقييم أداء الإدارة الجامعية ككل. يجب على الجامعة أن تتخذ إجراءات ملموسة لتصحيح هذا الوضع، وأن تعيد الاعتبار لأعضاء هيئة التدريس من خلال تسوية مستحقاتهم المتأخرة. ينبغي أن تكون هذه الحادثة درسًا لكافة المؤسسات الأكاديمية في المغرب، حيث يجب أن تكون الأولوية للمساواة والعدالة في التعامل مع الأساتذة والطلاب على حد سواء.
وفي ظل هذا الوضع، أظهرت بعض الهيئات الحقوقية والمهنية ضرورة تسليط الضوء على اختلالات بنيوية في قطاع التعليم العالي، تتطلب إصلاحات شاملة لمراجعة السياسات المالية والإدارية. يجب أن يتم اتخاذ خطوات فورية لتحسين وضع الأساتذة الجامعيين، والاعتراف بمساهماتهم في بناء العقول وتحقيق التقدم في المجتمع. إذا استمرت مثل هذه الأوضاع، فإن الجامعات ستكون عاجزة عن أداء دورها الحقيقي في المجتمع.
إذاً، لا يمكن تجاهل هذه القضية على أنها مجرد حادثة عابرة، بل هي مؤشر على خلل كبير في بنية النظام الأكاديمي. ينبغي على الجميع من مسؤولين وطلاب وأساتذة العمل معًا من أجل تصحيح الوضع، وضمان أن الجامعة تبقى مكانًا لتكريم العقول والجهود العلمية، وليس مجرد ساحة للاحتفالات الفارغة. إذا كانت الجامعات هي المحرك الرئيسي للتطور والارتقاء المجتمعي، فإن الحفاظ على مكانة الأساتذة واحترامهم يجب أن يكون أولوية لا مساومة فيها.