من المؤكد على ان مفهوم الأمن يعتبر من بين أكثر المفاهيم تعقيدا في التحليل العلمي، نظرا لطبيعته النسبية والمتغيرة، فضلا عن كونه مفهومامركبا يشمل أبعادا ومستويات متعددة. و يواجه الأمن تحديات وتهديدات متنوعة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وتأتي هذه التهديدات من مصادر مختلفة تتباين في طبيعتها وحجمها وتوقيتها، سواء تعلق الأمر بأمن الفرد، الدولة، أو حتى النظامين الإقليمي والدولي. ويعد الأمن أحد المفاهيم الأساسية في حقل العلاقات الدولية، حيث ظل يتسم بدرجة كبيرة من الغموض منذ نشأة العلاقات الدولية كحقل علمي مستقل عقب الحرب العالميةالأولى.
وقد حظيت المسألة الأمنية بمكانة محورية في سياسات بعض الدول، إذ غالبا ما تعتبر هدفا استراتيجيا تسعى لتحقيقه من خلال إتباع سياسات وقائية وعلاجية تهدف إلى التأثير على البيئة المحيطة، وهو ما أطلق عليه “أرنولد ولفرز” مصطلح “أهداف البيئة”.
ان الأمن لم يعد محصورا في معناه التقليدي المرتبط بحماية الحدودالإقليمية أو البعد العسكري فحسب، بل أصبح مفهوما أوسع يشمل مختلف الأبعاد التي تساهم في تطور المجتمع وتحقيق أهدافه. و هو الأمر الذي بات واضحا في السياسية الأمنية التي ينهجها المغرب بحيث عرف المغرب خلال السنوات الأخيرة سلسلة من العمليات الأمنية الناجحة التي استهدفت تفكيك مجموعة من الخلايا الإرهابية قبل وصولها إلى مرحلة التنفيذ. وكان اخرهاالعملية، التي من خلالها تمكنت السلطات الأمنية المغربية ممثلة في المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني في الكشف عن قاعدة دعم لخلية إرهابية،حيث أسفرت التحريات الدقيقة إلى الكشف عن هذه القاعدة اللوجيستية لتخزين الأسلحة والذخيرة قصداستخدامها في تنفيذ عمليات إرهابية داخل المملكة وهو ما يؤكد خطورةالترابط القائم بين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود والامتدادات المحليةالتي تعمل على تنفيذ مخططاتها، وقد أظهرت التحقيقات أن المنطقة التي استخدمت لهذا الغرض الارهابي تقع في إقليم الرشيدية وتحديدا في الضفةالشرقية لواد كير بمنطقة تل مزيل جماعة وقيادة واد النعام على الحدودالشرقية للمملكة وهو موقع يتميز بوعورة تضاريسه وعزلته الجغرافية ممايجعله مناسبا لعمليات التهريب والتخزين بعيدا عن الرصد الأمني وقداعتمدت المصالح الأمنية على تقنيات متطورة لتحديد الموقع بدقة مثل تحليل المعطيات الجغرافية باستخدام صور الأقمار الاصطناعية وإجراء مسح إشعاعي للكشف عن طبيعة المواد المحتملة داخل الموقع، وبعد تحديد الموقع تم تنفيذ عملية أمنية دقيقة وفق بروتوكولات مكافحة الإرهاب حيث تم اللجوءإلى استخدام كلاب بوليسية مدربة على كشف المتفجرات وآليات متخصصةللكشف عن المعادن وجهاز مسح بالأشعة السينية وروبوتات تقنية لرصدالأجسام المشبوهة وقد استمرت عمليات البحث الميداني والتفتيش لأكثر من قلاث ساعات وأسفرت عن العثور على شحنة من الأسلحة والذخيرة مدفونةفي مكان منزو أسفل المرتفع الصخري وكانت هذه الأسلحة ملفوفة داخل أكياس بلاستيكية وجرائد ورقية صادرة في مالي وهو ما يشير إلى الارتباط الوثيق بين هذه الخلية والفرع الإفريقي لتنظيم داعش وقد شملت الأسلحةالمحجوزة سلاحي كلاشينكوف مع خزانين للذخيرة وبندقيتين ناريتين وعشرةمسدسات نارية فردية من مختلف الأنواع إلى جانب كميات كبيرة من الذخيرة الحية من عيارات مختلفة وقد تم نقل هذه المحجوزات إلى المختبرالوطني للشرطة العلمية لإخضاعها لتحاليل باليستية وتقنية دقيقة لتحديدمصدرها وطريقة تهريبها ويشير التحليل الأولي إلى أن هذه الأسلحة تم توفيرها وإرسالها من قبل مسؤول العلاقات الخارجية لتنظيم داعش في منطقة الساحل عبر شبكات تهريب متخصصة تعمل على إيصال الأسلحةإلى الخلايا النائمة داخل المغرب،ويكشف هذا المخطط الإرهابي عن منهجيةمتطورة تعتمدها التنظيمات الإرهابية في المنطقة حيث يتم إرسال الأسلحةإلى مواقع محددة مسبقا ليتم استلامها لاحقا من قبل عناصر منفذة تعمل وفق توجيهات قياداتها وهو ما يعكس تحولا في أساليب العمليات الإرهابيةمن نمط الهجمات المباشرة إلى استراتيجية التخزين والتمويه قبل التنفيذ ممايستدعي تطوير آليات الرصد والاستباق الأمني لضبط هذه التحركات قبل وصولها إلى مراحل التنفيذ الفعلي،ولا تزال التحقيقات متواصلة تحت إشراف النيابة العامة المختصة بهدف الكشف عن جميع امتدادات هذه الخلية وتحديد علاقاتها بشبكات التهريب والتنظيمات الإرهابية الإقليمية كماأن هذه العملية تبرز مدى التهديد الذي يشكله تنظيم داعش في منطقةالساحل باعتباره أحد أكثر الفاعلين الإرهابيين نشاطا في المنطقة و إستغلاله للمسالك غير الشرعية والفراغات الأمنية في بعض المناطق الحدودية لتعزيزقدراته العملياتية.
هذه العملية الأمنية الناجحة تعكس مستوى الجاهزية العالية التي بلغتهاالأجهزة الأمنية المغربية في مواجهة التهديدات الإرهابية حيث باتت تعتمدعلى نهج استباقي يجمع بين التحليل الاستخباراتي الدقيق والاستخدام المكثف للتكنولوجيا الأمنية الحديثة وهو ما يضع المغرب في موقع متقدم على مستوى مكافحة الإرهاب في المنطقة ويعزز من دوره كشريك أساسي في الجهود الدولية الرامية إلى محاصرة تمدد التنظيمات الإرهابية وتفكيك شبكاتها العابرة للحدود.
كما أن هذا التدخل الذي كشف عن قاعدة الدعمجاء على اثر إحباط مخطط إرهابي خطير وتفكيك خلية مكونة من 12 شخصا ممن يحملون فكرا متطرفا تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاما. هؤلاءالاشخاص بايعوا تنظيم “داعش” الإرهابي وكانوا يخططون لتنفيذ عملياتإرهابية تستهدف منشآت اقتصادية وأمنية حساسة، بالإضافة إلى مصالحأجنبية داخل المغرب. وقد تم تنفيذ العملية الأمنية بشكل متزامن في تسعمدن مغربية، وهي العيون، الدار البيضاء، فاس، تامسنا، طنجة، أزمور،تاونات، جرسيف، وأولاد تايمة. وخلال المداهمات، تم ضبط مجموعة منالادوات المعدة في طور التركيب و المتصلة بهواتف محمولة للتفجير عن بعد. كما كشفت التحريات أن المشتبه بهم كانوا يستهدفون عناصر الأمنويخططون لإضرام حرائق عمدا في عدة مواقع.
هذا التدخل الناجح يؤكد مرة أخرى نجاعة و فاعلية المقاربة الأمنية التيتعتمدها المملكة في مكافحة السلوك المتشدد و المتطرف، كما تسلط الضوءعلى التحديات المستمرة التي تواجهها الأجهزة الأمنية في ظل تزايدالتهديدات المرتبطة بالجماعات المتطرفة ومرجعيتها الفكرية والاجتماعية والايديولوجية النشطة في منطقة الساحل والصحراء و التي احدثت تغييرا فياستراتيجيتها وانتقلت فيها من من ارهاب الذئاب المنفردة الى الخلاياالاسرية التي تعتبر اكثر خطورة على المدى البعيد و تمتلك القدرة على تتفيدعمليات اكثر تنظيما و تدميرية، و قد تنجح في توريث الفكر المتطرف عبرالاجيال. و هذا ما يجعل التعامل مع الظاهرة الإرهابية في المغرب يتم وفقمقاربة شاملة تجمع بين الرصد الاستخباراتي، التدخل الاستباقي، والمراقبةالدقيقة للفضاء السيبراني. هذه المقاربة الاستراتيجية مكنت المصالح الأمنيةمن احتواء الخطر الإرهابي بشكل كبير، حيث يتم الكشف عن المخططاتالتخريبية قبل تحولها إلى عمليات فعلية. وهو الامر الذي لوحظ في نجاح هذهالعملية الأخيرة التي كان واضحا فيها بشكل جلي مستوى التنسيق العاليوالدقيق بين مختلف الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها المكتب المركزي للأبحاثالقضائية، الذي أصبح مرجعا إقليميا في مكافحة الإرهاب بفضل قدرته علىتفكيك الشبكات الإرهابية المعقدة، وتعقب الامتدادات الدولية لهذه الجماعات. خصوصا منطقة الساحل الإفريقي التي اصبحت تشكل مصدر تهديدرئيسي للأمن المغربي، حيث تنشط تنظيمات مثل “داعش” و”القاعدة”، التيتسعى إلى توسيع نفوذها عبر تجنيد عناصر جديدة في شمال إفريقيا. وتظهر العلاقة بين هذه التنظيمات والخلايا المحلية أساسا في توفير الدعماللوجستي والتوجيه العملياتي، ما يجعل المغرب في مواجهة خطر دائميتطلب يقظة أمنية مستمرة. لمواكبة و احباط تطور أساليب هذه الجماعاتالتي أصبحت تعتمد على تقنيات أكثر تعقيدا في تنفيذ هجماتها المحتملة.
ومن الملاحظ على ان قدرة الأجهزة الأمنية المغربية على التصدي لهذهالتهديدات تستند إلى مجموعة من الركائز، أبرزها جمع المعلومات وتحليلهابدقة، مما يسمح بتحديد الأفراد المشتبه فيهم قبل أن يتمكنوا من تنفيذمخططاتهم. إلى جانب ذلك، تلعب المراقبة المستمرة للفضاء السيبراني دوراأساسيا في رصد الأنشطة المشبوهة على الإنترنت، حيث أضحت وسائلالتواصل الاجتماعي منصة رئيسية لنشر الفكر المتطرف وتجنيد الأتباع. فالتعامل مع هذا التحدي يتم من خلال تتبع الخطاب الإرهابي وتحليل أنماطانتشاره، ما يمكن السلطات من التحرك بسرعة وتفكيك الشبكات الافتراضيةالتي تستعد لتنفيد عملياتها على ارض الواقع.
إلى جانب المقاربة الأمنية الصارمة، يعمل المغرب على تعزيز سياسات الوقايةمن التطرف من خلال برامج تهدف إلى إعادة إدماج المعتقلين السابقين،وتفكيك البنية الفكرية التي تغذي التطرف. و في هذا السياق، يشكل برنامج”مصالحة” نموذجا بارزا في إعادة تأهيل المتطرفين داخل السجون، حيثيتم إخضاعهم لبرامج مراجعة فكرية ودينية بإشراف مختصين في علمالنفس والشريعة. إلى جانب ذلك، تم تحديث الخطاب الديني الرسمي لتعزيزقيم الوسطية والاعتدال، ما يساهم في تقليص تأثير الخطابات المتشددةالذي يستغل الثغرات الفكرية لدى بعض الفئات.
و هو نفس التصور الذي جاء في تصريح الناطق الرسمي باسم المديريةالعامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بوبكر سبيك فيآخر لقاء صحفي قامت به المكتب المركزي لدراسات و الابحاث القضائية،حيث اشار إلى وجود علاقة بين التدين وانخفاض معدلات الجريمة. وأوضحسبيك أنه خلال شهر رمضان 2024، سجلت مصالح الأمن الوطني حوالي46,434 قضية زجرية، ما يمثل انخفاضا بنسبة 28% مقارنة بشهر فبرايرمن نفس العام. وقد شمل هذا التراجع جميع أنواع الجرائم، بما في ذلك:
انخفاض بنسبة 42% في السرقات بالعنف.
انخفاض بنسبة 44% في جرائم القتل العمد.
انخفاض بنسبة 38% في جرائم الاغتصاب.
سبيك أرجع هذا الانخفاض إلى عاملين رئيسيين:
- إجراءات أمنية مشددة: تنفذها المصالح الأمنية خلال شهر رمضانلضمان سلامة المواطنين.
- الوازع الديني: حيث ينصرف الناس إلى العبادات وتزداد مجالس الوعظ،مما يساهم في تهذيب السلوكيات وتعزيز التسامح والاعتدال في المجتمع.
كما أشار سبيك إلى أن الجرائم المسجلة خلال هذه الفترة غالبا ما تكونذات طابع بسيط، مثل التسول أو العنف اللفظي، مع غياب للجرائم الخطيرةالتي تهدد الأمن العام. هذا التصريح كان معززا بمجموعة من المعطياتالواقعية و الارقام التي تدعم الفكرة القائلة بأن التدين والالتزام بالقيمالروحية يسهمان في تقليل معدلات الجريمة وتعزيز السلم الاجتماعي.
لكن و على الرغم من النجاحات المتلاحقة التي حققتها الأجهزة الأمنية، لاتزال هناك تحديات تستوجب استمرار الجهود المبدولة على عدة مستويات. من بين هذه التحديات، ضرورة تعزيز المراقبة الرقمية لمواجهة أساليب التجنيدالجديدة التي تعتمدها الجماعات الإرهابية، حيث أصبحت التقنيات الحديثةمثل التشفير والاتصالات المشفرة او الاستغلال المحتمل للذكاء الاصطناعيالتوليدي من قبل هذه الجماعات او إمكانية استخدام هذه التكنولوجيا لإغراءالشباب أو دفعهم إلى التطرف، أو المساعدة في تحديد الأهداف الضعيفة،أو زيادة خطر الإرهاب البيولوجي.
كل هذا يعد تحديا إضافيا يتطلب استراتيجيات أكثر تطورا و مواكبة لتطورالفكر المتطرف. كما أن تعزيز التعاون الأمني مع الدول المجاورة، خصوصافي منطقة الساحل، يبقى عنصرا أساسيا للحد من تدفق المقاتلين والأسلحةعبر الحدود، وهو ما يستدعي تحقيق آليات تبادل المعلومات وتعزيز التعاونالاستخباراتي الإقليمي.
في ظل كل هذه المعطيات، تلوح السياسة الأمنية المغربية كنموذج ناجح فيمكافحة الإرهاب، حيث تمكنت المملكة من تجنب العديد من الهجمات التيضربت دولا أخرى وفي مناطق مختلفة. هذا النجاح يعكس ليس فقط كفاءةالأجهزة الأمنية، ولكن أيضا قدرة الدولة على تبني مقاربة متكاملة توازن بينالتدخل الأمني الصارم والإجراءات الوقائية طويلة الأمد، من اجل تثبيطالتهديدات الإرهابية وافشالها على الرغم من محاولتها في التكيف معالمستجدات الإقليمية والتكنولوجية، بالإضافة الى الاستثمار في التكنولوجياالحديثة، وتعزيز الجهود الفكرية والاجتماعية لتحصين المجتمع ضدالخطابات المتطرفة.
عماد ب / باحث في العلوم السياسية.