بقلم عزيز بنحريميدة
بعيداً عن الصورة النمطية للسجون، يكشف السجن المحلي عين السبع 1 عن واقع أكثر تعقيداً مما يظهر للعموم. هنا، خلف الأسوار العالية والبوابات الحديدية، تُخاض معارك يومية لا يسمع عنها أحد. معارك مرتبطة بالاكتظاظ، والرعاية الصحية، والانضباط، وتأهيل آلاف النزلاء، وكلها تُدار على يد فئة من الموظفين والأطر الذين نادراً ما يُسلَّط الضوء على تضحياتهم رغم كونهم الركيزة الحقيقية التي يستند عليها هذا المرفق الحساس.
في هذا الفضاء المزدحم، يصل عدد الوافدين الجدد إلى مستويات قياسية، إذ تستقبل المؤسسة في المتوسط ثمانية وثلاثين سجيناً جديداً يومياً، وقد يتضاعف العدد في بعض الأيام ليتجاوز الثمانين وافداً. هذا التدفق المستمر خلق ضغطاً غير مسبوق، خاصة وأن عدد السجناء خلال السنة الماضية تجاوز أحد عشر ألفاً، وهو رقم يعكس أزمة اكتظاظ خانقة بكل المقاييس. ورغم ذلك، تمكنت المندوبية العامة من خفض العدد إلى أقل من عشرة آلاف عبر تعزيز الطاقة الاستيعابية وتنظيم عمليات الترحيل، غير أن هذا الانخفاض لم يُلغِ التحدي القائم، بل جعل الإدارة أمام واقع يتطلب يقظة متواصلة واستعداداً غير منقطع.

يتزامن هذا الوضع الميداني مع دينامية تشريعية أعادت تشكيل المشهد القانوني للسجون. دخول القانون 10-23 حيّز التنفيذ، و تطبيق نظام العقوبات البديلة المنصوص عليه في القانون 43-22، جعلا المؤسسات السجنية أمام مسؤوليات إضافية تفرض إعادة هيكلة طرق الاشتغال وتطوير آليات جديدة للتدبير. ومع كل هذه التحولات، تظل القيمة الكبرى هي قدرة الموظفين على التكيف مع الضغط اليومي المستمر ومع المتطلبات القانونية الجديدة التي تزيد عبء العمل وتعقيداته.
داخل المؤسسة، تتجلى تحديات الرعاية الصحية كأحد أكثر الجبهات حساسية. أكثر من اثنين وثلاثين ألف فحص طبي أُنجز داخل السجن خلال سنة واحدة، إضافة إلى نحو أربعة آلاف فحص خارجي بالمستشفيات. هذه الأرقام وحدها كافية لتشير إلى حجم العمل الذي يضطلع به الطاقم الطبي داخل فضاء محدود الإمكانيات. ومع ذلك، تمت إضافة مصحة حديثة وتجهيزات طبية جديدة والتعاقد مع أطباء متخصصين لسدّ جزء من الخصاص، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن عبء الرعاية الصحية يُوزَّع يومياً على أكتاف موظفين يعملون في ظروف استثنائية ودون توقف.

وفي الجانب المتعلق بالأمن الداخلي، لا تقل التحديات صعوبة. فالمؤسسة عبارة عن “مدينة” مكتظة، تتطلب مراقبة دقيقة على مدار الساعة. عمليات التفتيش والبحث عن الممنوعات لا تتوقف، وإعادة هيكلة قاعة المراقبة الإلكترونية وتركيب ما يقارب سبعمئة كاميرا يؤكد أن الإدارة تحاول بكل الوسائل السيطرة على محيط محفوف بالمخاطر. لكن الكاميرات وحدها لا تكفي؛ فخلف كل كاميرا يقف موظف يتابع، ويحلل، ويتدخل عند الضرورة. هؤلاء الموظفون، الذين يعملون غالباً بعيداً عن الأنظار، يشكلون خط الدفاع الأول في مواجهة أي تهديد محتمل.
ورغم كثافة الضغط الأمني، تحاول المؤسسة الحفاظ على مساحة للأمل عبر برامج التعليم والتكوين وإعادة التأهيل. أكثر من خمسمئة نزيل يتابعون دراستهم، بينهم من بلغ مرحلة الدكتوراه، إضافة إلى عشرات المستفيدين من محو الأمية والتكوين المهني والحرفي. وتشير الأرقام إلى أن ما يقارب ثمانية آلاف نزيل شاركوا في أنشطة ثقافية ورياضية واجتماعية خلال سنة واحدة، وهو ما يؤكد أن رهانات إعادة الإدماج ليست شعاراً، بل ممارسة يومية تُحاول المؤسسة، رغم الضغوط، الحفاظ عليها.
ومع التحول الرقمي الذي تشهده الإدارة العامة للسجون، شهدت مؤسسة عين السبع 1 نقلة نوعية في تدبير الزيارات العائلية، حيث خفّض نظام الزيارة الإلكترونية زمن الانتظار بشكل لافت رغم تجاوز عدد الزوار السنوي 136 ألفاً. كما أن اعتماد التقاضي عن بعد مكّن أكثر من واحد وثلاثين ألف سجين من المثول أمام المحاكم دون تنقل، في تجربة عززت الأمن وخففت الضغط اللوجيستي على المؤسسة.
ورغم حجم الأرقام وبرامج الإصلاح، يبقى العنصر البشري هو القلب الحقيقي لهذه المؤسسة. فعدد الموظفين الذي يبلغ 654 موظفاً وموظفة، يعملون ليلاً ونهاراً وفي العطل والمناسبات، يعكس حجم التضحية التي لا يراها الناس. إنهم يديرون مؤسسة مكتظة، يواجهون مخاطر يومية، يتعاملون مع حالات نفسية معقدة، ويراقبون آلاف السجناء، ويؤمّنون تغذيتهم واستشفاءهم وزياراتهم، ويُشرفون على تعليمهم وتأهيلهم. هؤلاء ليسوا مجرد موظفين إداريين؛ إنهم في الصفوف الأمامية دائماً، يمارسون مهاماً ذات حساسية عالية داخل بيئة يصعب التنبؤ بسلوكها اليومي.
تطوير النظام الأساسي الجديد الخاص بموظفي إدارة السجون جاء ليعترف ولو جزئياً بتضحيات هذه الفئة. رفع التعويضات وتكريس الطابع شبه العسكري خطوة مهمة، لكنها تبقى واحدة من إجراءات كثيرة يحتاجها هذا الجهاز الحيوي الذي يضم أبطالاً صامتين، بعضهم يدفع ثمن الإجهاد المهني، وبعضهم يدخل كل يوم المؤسسة مدركاً أنه لا يشتغل في قطاع تقليدي، بل في خط تماس دائم بين الأمن والإنسان.
إن ما يجري داخل السجن المحلي عين السبع 1 لا يمكن اختزاله في أرقام، ولا في نصوص قانونية، ولا في إصلاحات تنظيمية فقط. إنه يوميات مؤسسة تعيش على وقع التحديات المستمرة، وتنهض بفضل رجال ونساء يشتغلون في الظل، ويمثلون صمام أمان حقيقياً للمنظومة السجنية برمتها. هؤلاء الذين لا تُلتقط صورهم عادة، ولا يُذكرون في العناوين، هم الذين يحفظون النظام، ويحرسون الأرواح، ويضمنون استمرارية مؤسسة تقف عند تقاطع الأمن والعدالة وحقوق الإنسان.
بهذا المعنى، فإن مستقبل إصلاح السجون لن يُقاس فقط بقوانين جديدة أو تجهيزات حديثة، بل بمدى الاعتراف الحقيقي بقيمة هؤلاء الموظفين، ودعمهم، وتأهيلهم، وحمايتهم وهم يواصلون تأدية واجبهم في أصعب فضاءات المرفق العمومي وأكثرها حساسية.

