بقلم عزيز بنحريميدة
حين ينفض القوم من حولك، ستسمع الصمت يملأ المكان. لا هاتف يرن، لا دعوات، لا كلمات مجاملة ولا تهانٍ فارغة. ستعرف أن اللعبة قد انتهت، أن الستار قد أُسدل على فصل من حياتك كنت تظنه لا ينتهي.
ستنظر حولك، فلا تجد إلا ظلك، صامتًا يمشي معك، يذكرك أن المنصب كان مجرد وهم مؤقت، وأن السلطة كانت قناعًا يرتديه الناس من حولك لأجل مصالحهم، لا لأجلك.
ستعود وحدك، بلا حاشية، بلا أضواء، بلا ضجيج. ستسير في الطرقات كما كنت قبل أن يعرفك أحد، تحمل حوائجك بيدك، وتفتح الأبواب بنفسك. ستكتشف حينها أن الحراسة التي كنت تظنها حماية كانت قيدًا، وأن المرافقين الذين كانوا يحيطون بك، كانوا يحيطون فقط بما تملكه، لا بما أنت عليه.
تعود إلى بيتك وحيدًا، لا أحد ينتظر وصولك ليصفق، لا موائد فاخرة، لا استقبال حافل. تعود إلى حقيقتك، مجرد إنسان، لا أكثر ولا أقل.
لا شيء يبقى لك سوى عملك الطيب، وذكرى حسنة قد يمر بها أحدهم يوماً ويترحم عليك. لا جاه، لا مال، لا سلطة ترافقك إلى قبرك. وحدها النوايا الطيبة، وحده القلب النظيف، وحدها السيرة العطرة هي التي تظل ترافقك حين يتخلى عنك الجميع.
احرص أن تبني لك ذكرى طيبة لا تهدمها المناصب ولا تمحوها الأيام. فالبقاء للأثر، والخلود لمن عمر قلوب الناس بالمحبة والصدق.
إنها سنة الحياة التي لا تتبدل ولا تحابي أحدًا. لكل بداية نهاية، ولكل صعود هبوط، وكل المناصب مهما علت إلى زوال. هذه الحقيقة المجردة قد تبدو قاسية للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها دروسًا عميقة وحكمة بالغة لمن أراد أن يعتبر.
عندما كنت في أوج قوتك ونفوذك، كان الهاتف لا يكاد يصمت من كثرة المتصلين، وكانت الدعوات تنهال عليك لحضور الولائم والمناسبات، سواء كانت ذات أهمية أم لا. كانت الوجوه تبتسم لك ببشاشة زائفة، والكلمات تتودد إليك بنفاق مقيت. كنت تظن أن هذا كله نابع من حب وتقدير لشخصك، لكن الحقيقة المرة تتجلى الآن عندما تجد نفسك وحيدًا.
فجأة، يتوقف كل شيء. لا مكالمات، لا دعوات، لا اهتمام. تشعر وكأنك شخص غير مرئي، وكأنك خرجت من دائرة الضوء إلى الظل. هنا، تبدأ في فهم أن الكثير ممن كانوا حولك لم يكونوا يقدرون شخصك بقدر ما كانوا يقدرون موقعك ونفوذك. لقد كانوا يتسلقون على أكتافك لتحقيق مصالحهم، وعندما انتهت هذه المصالح، لم يعد لهم بك حاجة.
هذه التجربة المؤلمة، وإن بدت قاسية، إلا أنها فرصة حقيقية لإعادة تقييم الذات والعلاقات. إنها لحظة صدق مع النفس، حيث تتجلى لك معادن الناس الحقيقية. الذين يبقون بجانبك في هذه الظروف الصعبة هم الأصدقاء الحقيقيون، هم الذين يقدرونك لذاتك وليس لمنصبك. أما الآخرون، فهم مجرد عابرين في محطات حياتك، وقد حان وقت رحيلهم.
في هذه المرحلة الجديدة، ستعود إلى ممارسة حياتك بشكل مختلف. ستذهب لقضاء حوائجك وحيدًا، دون موكب أو حراسة أو هيلمان. ستعود إلى منزلك وحيدًا، بعد أن زال المنصب والسلطة وزال معهما أصحاب المصالح. قد تشعر في البداية بالغرابة والوحدة، لكن مع مرور الوقت، ستكتشف قيمة هذه الوحدة. إنها فرصة للتفكير العميق، ومراجعة الذات، وإعادة ترتيب الأولويات.
تذكر دائمًا أن ما يبقى للإنسان في نهاية المطاف ليس المنصب أو السلطة أو الأموال، بل عمله الصالح وسمعته الطيبة إن كان من المحافظين عليها. هذه هي الرصيد الحقيقي الذي ينتفع به الإنسان في دنياه وآخرته. المنصب زائل، والسلطة متغيرة، أما العمل الصالح والذكر الحسن فهما باقيان ما بقيت الحياة.
فلنتعلم من هذه السنة الكونية، ولنحرص على بناء علاقات حقيقية قائمة على الحب والتقدير المتبادل، لا على المصالح الآنية. ولنتذكر دائمًا أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في جوهره وأخلاقه وعمله الصالح، لا في منصبه أو سلطته الزائلة. وعندما ينفض القوم من حولنا، فلنجعل عزاءنا في رصيدنا الحقيقي من الأعمال الصالحة والسمعة الطيبة، فهما خير ما يبقى للإنسان في دنياه وآخرته.