زينب الجعنين : باحثة في سوسيولوجيا التربية
لا مراء في القول أن المنظومة التربوية على وجه العموم ،وقطاع التعليم على وجه التحديد في المغرب ،يعيش منذ سنوات على وقع سلسلة من الإصلاحات المتعاقبة، في محاولة للخروج من دوامة الأعطاب البنيوية التي تعرقل تحقيق الجودة والإنصاف وتكافؤ الفرص.
في هذا السياق، برز مشروع “المدرسة الرائدة” باعتباره أحد أكثر النماذج التجريبية طموحًا، ضمن خارطة الطريق 2022-2026، التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية، كمرحلة جديدة من إصلاح المنظومة التعليمية. غير أن هذا المشروع، على الرغم من وجاهة تصوره النظري، يثير تساؤلات نقدية عميقة حول جدواه، وشروط تنفيذه، وآفاقه الفعلية.
أولا: في سياق التأسيس ،نوايا طموحة في واقع معقد
تقوم المدرسة الرائدة، نظريا، على إحداث تحول نوعي في الممارسات التربوية، من خلال اعتماد مقاربات بيداغوجية جديدة، وتنزيل مشروع المؤسسة بشكل فعّال، مع تفعيل آليات التقييم المستمر والنجاعة في التدبير. وقد تم تقديمها كـ”نموذج يحتذى به” لباقي المؤسسات التعليمية العمومية، مع وعود بتحقيق نتائج ملموسة في تحسين التعلمات، وتقليص نسب الهدر المدرسي، ودمقرطة الولوج إلى فرص تعليم جيد.
لكن، هل يمكن لهذا النموذج، بصيغته الحالية، أن يتحول فعلًا إلى رافعة حقيقية لإصلاح المدرسة العمومية، أم أنه لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج لتجارب “نخبوية” معزولة في بحر من الاختلالات البنيوية؟
ثانيا: قراءة نقدية في النموذج، إشكالات على مستوى التنزيل
رغم الإشادة الرسمية بالنتائج الأولية لهذا النموذج، فإن القراءة النقدية تبرز عدّة ملاحظات تستحق الوقوف عندها:
الانتقائية المفرطة: المدرسة الرائدة، بحكم طبيعتها التجريبية، تم اختيارها في مناطق محددة ومؤسسات ذات مواصفات معينة، تتوفر غالبًا على بنيات تحتية جيدة وأطر مؤهلة نسبيًا. وهذا يطرح إشكال التعميم غير الواقعي، ويجعل النموذج أقرب إلى “تجارب استعراضية” أكثر منها إصلاحًا شاملًا.
ضعف المقاربة التشاركية الحقيقية: على الرغم من التنصيص على انخراط الفاعلين المحليين (أساتذة، أسر، جماعات ترابية…)، فإن المقاربة التشاركية ظلت شكلية في كثير من الحالات، وغابت إرادة فعلية في تمكين هؤلاء من سلطة اتخاذ القرار أو التأثير في المسار التربوي للمؤسسة.
تباين مستويات التكوين والمواكبة: يتطلب نجاح النموذج وجود موارد بشرية ذات كفاءات بيداغوجية حديثة، غير أن الواقع يكشف عن تفاوت كبير في تأهيل الأطر، مع غياب تكوين مستمر جاد، وضعف آليات الدعم والمصاحبة الميدانية.
أزمة الثقة وضعف الانخراط: جزء مهم من الجسم التربوي لا يرى في هذا المشروع سوى إعادة إنتاج لخطاب الإصلاح دون تغيير فعلي في شروط الممارسة اليومية داخل الفصول الدراسية، خاصة في ظل الاكتظاظ، والخصاص، وتضخم البرامج الدراسية.
ثالثا: المدرسة الرائدة وسؤال العدالة المجالية
من أبرز الإشكالات التي يطرحها هذا النموذج، هو التفاوت المجالي بين الوسطين الحضري والقروي. ففي الوقت الذي استفادت فيه مؤسسات حضرية من موارد وتجهيزات حديثة، لا تزال مدارس العالم القروي تعاني من غياب الحد الأدنى من الشروط المادية والبشرية لمواكبة هذا النموذج. وهذا يعمّق الفجوة التعليمية بين الفئات، ويُفرغ المشروع من بُعده الإنصافـي والاجتماعي.
رابعا:تمويل محدود وآفاق غير مضمونة
يُعد التمويل من العوامل الحاسمة في استدامة أي إصلاح. ومع أن المدرسة الرائدة استفادت في بدايتها من دعم تقني ومالي مهم، فإن الاستدامة التمويلية تظل محل شك، في ظل تعدد المشاريع وغياب رؤية موحدة لتنسيق الجهود. كما أن الرهان على الشراكات مع الفاعلين الدوليين والخواص يطرح أسئلة حول السيادة التربوية وأولويات الدولة في تمويل التعليم العمومي.
خامسا:نحو أي مدرسة عمومية نطمح؟.
تجربة المدرسة الرائدة تطرح، في عمقها، سؤالًا جوهريًا: هل نريد مدرسة عمومية جيدة للجميع، أم نماذج معزولة وجزرًا نموذجية في محيط هش؟ إن الرهان الحقيقي لا يكمن في خلق “مدارس نموذجية” قليلة العدد، بل في توفير شروط الجودة والعدالة والابتكار داخل كل المدارس العمومية، دون استثناء أو انتقائية.
من هنا، يصبح ضروريًا إعادة التفكير في منطق الإصلاح ذاته، والانتقال من المقاربة التقنية إلى إصلاح يستند إلى مقاربة حقوقية وتنموية شاملة، تضع التلميذ في قلب العملية، وتعزز موقع الأستاذ كمحور للتغيير، وتفعل اللامركزية الفعلية في تدبير الشأن التربوي.
صفوة القول،إن المدرسة الرائدة، رغم ما تحمله من آمال وتطلعات، تظل تجربة محدودة من حيث الانتشار، مشروطة من حيث الأثر، وهشة من حيث الاستمرارية. وهي في شكلها الحالي لا تمثل بالضرورة إصلاحًا عميقًا للمنظومة، بقدر ما تعكس منطق “الإصلاح الجزئي” الذي طالما طبع السياسات التربوية في المغرب.
وحتى لا تتحول إلى “حقل تجريبي آخر” ينضاف إلى أرشيف الإصلاحات غير المكتملة، فإن المطلوب اليوم هو نقد شجاع، وتقييم مستقل، وتعديل في المسار، يضمن الانتقال من النماذج التجريبية إلى سياسة تربوية شمولية ترفع المدرسة العمومية إلى مستوى انتظارات المجتمع المغربي وطموحات أجياله القادمة.

