د.عدنان المتفوق : الكاتب العام لنادي قضاة المغربيشهد التشريع الجنائي المغربي تحولا نوعيا يعكس تبنّي رؤية حديثة لمنظومة العدالة الجنائية، تقوم على اعتماد العقوبات البديلة باعتبارها آليات أكثر انسجاما مع التطورات الحقوقية المعاصرة، إلى جانب إعادة تنظيم تدابير الاعتقال الاحتياطي. ويأتي هذا الاختيار التشريعي استجابة لجملة من التحديات، وفي مقدمتها الاكتظاظ الذي تعاني منه المؤسسات السجنية، وضعف جدوى العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، فضلا عن الملاحظات المتكررة الصادرة عن الهيئات الوطنية والدولية بشأن التوسع في اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي رغم طبيعته الاستثنائية. ومن ثم، يتجه المشرع نحو ترسيخ فلسفة جنائية جديدة تقوم على تقليص اعتماد تدابير الحرمان من الحرية، وجعلها خيارا أخيرا لا يلجأ إليه إلا عند الاقتضاء الضروري.
ولا يمكن مقاربة هذا التحول دون استحضار الدور المحوري لجلالة الملك بصفته الضامن لحقوق المواطنين وحرياتهم، ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. فقد شكلت التوجيهات الملكية، الواردة في الخطب والرسائل الملكية، إطارا مرجعيا لرسم ملامح إصلاح شامل يرتكز على تعزيز دولة الحق والقانون، وضمان عدالة فعالة وناجزة، وتحديث التشريعات بما ينسجم مع التحولات الدستورية والالتزامات الدولية للمغرب.
وقد تجسدت هذه الرؤية من خلال صدور نصوص تشريعية محورية، أبرزها القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، الذي دخل حيز التنفيذ كخطوة مهمة لمعالجة معضلة الاكتظاظ عبر توفير بدائل إصلاحية أقل تكلفة اجتماعية. وإلى جانبه يأتي القانون 03.23 المتعلق بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، الذي دخل حيز التنفيذ في 8 دجنبر 2025، ليضبط أحد أخطر إجراءات الدعوى العمومية وهو الاعتقال الاحتياطي، بما يضمن احترام قرينة البراءة ويحد من اللجوء غير المبرّر إليه.
وتشكل أحكام هذين القانونين معا الأساس الذي تبنى عليه عملية تحديث المنظومة الجنائية المغربية؛ فالأول يرسخ فلسفة إصلاحية للعقوبة، بينما يركز الثاني على ضبط المسطرة وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة. وتكشف هذه الدينامية أن السياسة الجنائية الوطنية باتت تعتمد مقاربة شمولية توازن بين الردع والوقاية، وبين حماية النظام العام وصون كرامة الإنسان.المحور الأول: العقوبات البديلة كمدخل لتحديث مفهوم العدالة الزجرية
سعى المشرع المغربي إلى تبني نظام العقوبات البديلة في سياق مراجعة شاملة للسياسة الجنائية، بهدف تجاوز حدود العقوبات السجنية، خصوصا في الجنح التي لا تتجاوز خمس سنوات أو تستدعي حرمان الجاني من حريته. وقد جاء هذا التوجه بعد اتضاح أن العقوبات القصيرة تسهم بشكل كبير في تفاقم الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية، وما يترتب عنه من صعوبات تنظيمية وإنسانية. ويمثل إدراج بدائل كالعمل لفائدة المصلحة العامة، والغرامة اليومية، والمراقبة الإلكترونية و تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير علاجية، خطوة تهدف إلى تعزيز العدالة الجنائية عبر ضمان التناسب بين الفعل الإجرامي والتدبير المطبق، مع الإبقاء على الروابط الأسرية والاجتماعية للمحكومين وتفادي العزلة التي قد تدفع إلى الانحراف من جديد. كما يعكس هذا التوجه انسجاما مع التوصيات الدولية الداعية إلى اعتماد تدابير إصلاحية تقلل من اللجوء إلى السجن وتدعم إدماج الجاني.
يمثل القانون رقم 43.22 خطوة جوهرية في تحديث المنظومة الزجرية بالمغرب، إذ يعكس تحولا نحو فلسفة جنائية ترتكز على الإصلاح والوقاية قبل العقاب. فقد جاء القانون لمعالجة محدودية أثر العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة وما تتركه من آثار اجتماعية معقدة، مانحا القضاء والنيابة العامة والقائمين على تنفيذ العقوبات صلاحيات واسعة لضمان تطبيق فعال لهذه التدابير ضمن الجرائم المستهدفة، دون المساس بمبدأ الردع القانوني. ويؤكد هذا التوجه على أن إعادة التربية وتقويم السلوك تعد أهدافا موازية للعقاب، لا سيما في الجرائم البسيطة التي يكون الإصلاح فيها أكثر جدوى من الإيداع السجني.
كما يعالج القانون تحديات ملموسة، من بينها ارتفاع حالات العود الناتجة عن محدودية فعالية العقوبات التقليدية، وما يصاحبها من انقطاع للروابط الاجتماعية وزيادة الهشاشة، وهو ما قد يعزز السلوك الإجرامي بدلا من الحد منه. ويتيح هذا الإطار التشريعي تخفيف الأعباء المالية والإدارية على المؤسسات السجنية، والحد من الآثار السلبية على أسر المحكومين والمجتمع، مع تعزيز فعالية التدابير القصيرة الأمد التي لم تحقق الردع المطلوب سابقا. ويظل نجاح هذا القانون مرتبطا بتوفير الوسائل الكفيلة بتطبيقه ومواكبة المجتمع له عبر برامج تحسيسية، لضمان انتقال فعلي نحو منظومة عقابية أكثر إنسانية وواقعية، تسهم في الحد من العود وتخفيف الضغط على السجون.
المحور الثاني: الاعتقال الاحتياطي بين الطابع الاستثنائي وإصلاح الضوابط القانونية المنظمة له
يأتي القانون رقم 03.23، الذي دخل حيز التنفيذ بتاريخ 8دجنبر 2025، ليؤسس لإطار قانوني أكثر صرامة وانضباطا يهدف إلى الحد من الإفراط في اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي، انسجاما مع مبدأ قرينة البراءة والالتزامات الدولية ذات الصلة. وقد قدمت المادة 618 من قانون المسطرة الجنائية المعدل في فقرتها الثانية، تصورا مستحدثا لمفهوم “المعتقل احتياطيا”، حيث اعتبرت كل متهم يوجد في مرحلة التحقيق أو المحاكمة دون صدور حكم أو قرار قضائي يقضي بإدانته في عداد المعتقلين احتياطيا، وهو ما يعزز الطابع الاستثنائي لهذا التدبير .
وفي الاتجاه ذاته، أكدت المادة 175 من قانون المسطرة الجنائية الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي، من خلال تقييد اللجوء إليه في الجنايات أو الجنح التي تكون العقوبة المترتبة عنها سالبة للحرية، مع اشتراط تعذر اعتماد بديل آخر أقل مساسا بالحرية الشخصية، وإلزام الجهة القضائية بتقديم تعليل كتابي مفصل يبرر قرارها. كما حصرت المادة 1-175 الأسباب القانونية التي تجيز اتخاذ هذا التدبير، في حين خولت المادة 2-175 إمكانية إصدار أمر بالاعتقال الاحتياطي في مختلف مراحل التحقيق، حتى في الحالات التي يخضع فيها المتهم لتدبير المراقبة القضائية، شريطة قيام أحد الأسباب المنصوص عليها قانونا، مع إلزام القاضي بإشعار المتهم والنيابة العامة فورا حرصا على الشفافية وضمانا لحقوق الدفاع.
أما على مستوى مدد الاعتقال الاحتياطي، فقد وضعت المادة 176 ضوابط محددة بخصوص الجنح، حيث قررت مدة أصلية يمكن تمديدها مرة واحدة ولمدة مماثلة، مع ضرورة تعليل قرار التمديد وبيان مبرراته سواء تعلق الأمر باستكمال إجراءات التحقيق أو استمرار الأسباب التي أملت اتخاذ الاعتقال منذ البداية. وفي المقابل، عالجت المادة 177 وضعية الاعتقال الاحتياطي في الجنايات، حيث سمحت بالتمديد مرتين للمدة الأصلية، بينما رفعت عدد التمديدات إلى خمس بالنسبة للجرائم المرتبطة بالإرهاب أو تلك الماسة بأمن الدولة، نظرا لطبيعتها الخطيرة وتعقيد مساطر التحقيق فيها. وفي جميع الحالات، فرض المشرع تعليلا قضائيا دقيقا لأي قرار بالتمديد، مع بيان الأسس القانونية والوقائع المبررة له، وذلك تكريسا للتوازن بين متطلبات الأمن القضائي وحقوق المتهم وحمايته من أي تعسف محتمل في تقييد حريته.
وفي إطار تحديث السياسة الجنائية، عمل المشرع على تطويق الاعتقال الاحتياطي بجملة من الضمانات الصارمة التي تعكس طبيعته كإجراء استثنائي يمس الحرية الشخصية ويخضع لمبدأ قرينة البراءة. وقد بينت الممارسة العملية أن الإفراط في التمديدات وطول مدتها، وإن كان يتذرع به لتقريب المتهم من العدالة، كان يؤدي في الواقع إلى ترتيب آثار عقابية قبل صدور حكم نهائي. ومن ثم، اتجه المشرع إلى الحد و التقليص من عدد التمديدات وربط كل تمديد بتعليل قانوني جدي ودقيق، بما يكفل عدم اللجوء إلى هذا التدبير إلا في حالات الضرورة القصوى.
كما يهدف هذا التقييد إلى تسريع وتيرة البحث والتحقيق والمحاكمة، ودفع الجهات القضائية إلى احترام الآجال الاسترشادية المعقولة، إضافة إلى المساهمة في معالجة معضلة الاكتظاظ السجني الناتج عن التوسع في الاعتقال الاحتياطي. وبهذا النهج، يسعى المشرع إلى إرساء توازن دقيق بين متطلبات حماية النظام العام وضمان صون الحرية الفردية باعتبارها حقا دستوريا أصيلا.
الخاتمة:
يتبين من خلال هذا التحول التشريعي أن المشرع المغربي يعيد رسم معالم سياسة جنائية حديثة تجعل من الحرمان من الحرية تدبيرا استثنائيا، وتعتمد العقوبات البديلة كخيار أصيل ينسجم مع متطلبات العدالة وحقوق الإنسان. فهذا التوجه لا يهدف فقط إلى الحد من الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية، بل يسعى قبل ذلك إلى تحسين جودة العدالة الجنائية عبر تعزيز الضمانات الإجرائية، وصون الكرامة الإنسانية، وترسيخ مبدأ التناسب بين خطورة الفعل والعقوبة المقررة له. كما يعكس اعتماد هذه المقاربات الجديدة رغبة واضحة في جعل إعادة الإدماج محورا مركزيا للعقوبة، والانتقال من منطق الردع السالب للحرية إلى منطق أكثر نجاعة ومرونة يوازن بين حماية المجتمع والحفاظ على الحقوق الفردية. وبهذا، يعمل المشرع على جعل التدابير المقيدة للحرية آخر الحلول الممكنة، بما يضمن انسجام السياسة الجنائية مع المعايير الدولية، ويعزز ثقة المواطن في القضاء، ويرفع من مردودية المنظومة العقابية في خدمة الأمن والتنمية في آن واحد.
ويمثل دخول القانون رقم 03.23 المتعلق بالمسطرة الجنائية حيز التنفيذ، إلى جانب تطبيق القانون 43.22 الخاص بالعقوبات البديلة، محطة مفصلية في مسار تحديث التشريع الجنائي المغربي. غير أن نجاح هذا التحول يبقى مشروطا بعدد من الإجراءات المواكِبة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
- التأهّب المؤسساتي لتطبيق القانون 03.23: يستدعي التطبيق الفعلي لهذا القانون تعزيز برامج التكوين والتأهيل لفائدة القضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامين وضباط الشرطة القضائية، بما يضمن استيعاب المستجدات الإجرائية وتوحيد الممارسة القضائية وتحقيق الفعالية المطلوبة.
- تعزيز البنية التحتية لتنفيذ العقوبات البديلة: (43.22) يقتضي الأمر تعبئة الموارد المالية والتقنية والبشرية لضمان تنفيذ المراقبة الإلكترونية وتوسيع شبكة المؤسسات والهيئات القادرة على استقبال المحكومين لأداء العمل من أجل المنفعة العامة على وجه الخصوص.
- ترسيخ ثقافة قضائية حديثة: وذلك من خلال تشجيع القضاة على اعتماد التدابير والعقوبات البديلة للاعتقال أو للعقوبة كلما توفرت شروطها القانونية، واعتماد مقاربة فردانية في التفريد القضائي تجعل من العقوبة أداة للإصلاح والاندماج أكثر من كونها مجرد وسيلة للزجر.
يمكن القول إن هذه الإصلاحات، رغم أهميتها، تشكل خطوة أولى ضمن مسار طويل يسعى إلى تحديث المنظومة الجنائية في المغرب، بما يواكب المعايير الحديثة للعدالة ويعزز فعالية السياسات الجنائية.
كما تهدف هذه الإصلاحات إلى ترسيخ دعائم دولة الحق والقانون، عبر تحقيق توازن دقيق بين حماية المجتمع من الجريمة وصون حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية، بما يضمن عدالة أكثر نجاعة وشمولية.

