الرئيس الأول لمحكمة النقض حول موضوع :« التصدي لفعل الاستيلاء على عقارات الغير »: نواجه أشخاصا محترفين في رصد الثغرات القانونية والتجاوزات الإدارية

نشر في: آخر تحديث:

في كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض حول موضوع :« التصدي لفعل الاستيلاء على عقارات الغير »:

* نواجه أشخاصا محترفين في رصد الثغرات القانونية والتجاوزات الإدارية

* لدينا مناطق تماس ومداخل يجب تحصينها لمواجهة العصابات واللوبيات المنظمة

جريدة العلم الثلاثاء الموافق 24 يناير 2017
قدم الأستاذ مصطفى فارس، الرئيس الأول لمحكمة النقض بالرباط مداخلة في لقاء نظم أخيرا بالمعهد العالي للقضاء بالرباط حول موضوع :» التصدي لفعل الاستيلاء على عقارات الغير «، وجاء في هذه المداخلة:

« إن مناقشة مثل هذا الموضوع اليوم يحتم علينا أن نُسمي الأشياء بمسمياتها وأن ندقق في الجزئيات ونطرح الأسئلة الحقيقية، التي توصلنا إلى مكمن الخلل والداء، لكونه يتعلق بشكل مباشر بالأمن العقاري لبلادنا، مؤطر لحق الملكية المكفول دستوريا، والاستقرار، والاستثمار، والتنمية، ويضعنا أيضا أمام إشكالية الارتباط.
ارتباط وأواصر يربطها الإنسان وطنيا كان أو أجنبيا مع هذا الوطن من خلال سكن، أو محل تجاري أو أرض عارية، أو غيرها فتمتد إليها أياد مجرمة تحاول قطع هذا الارتباط وفك أواصر عميقة ومتينة تقوت عبر سنوات طوال.
في هذا السياق فإن الرسالة الملكية السامية تؤكد على استفحال هذه الظاهرة، وتكاثر هذه الحالات وتزايد الشكايات بخصوصها من طرف الأجانب، أو المواطنين، خاصة منهم المقيمين بالخارج، يمس بشكل كبير بمصداقية العمل الذي تقوم به المؤسسات والجهات المعنية إدارية كانت أو قضائية، ويبخس الجهود الإصلاحية الكبرى التي تقودها بلادنا على مختلف الأصعدة.
إذن نحن أمام تحدي حقيقي لصورة إدارتنا وقضائنا في أعين فئات فرضت عليها ظروفها، وضعا لا يتيح لها الدفاع عن حقوقها ومصالحها العقارية بشكل مباشر تام وفعال، ويتعين علينا ضمان حمايتها وتمكينها من حقها في التملك والاستقرار والارتباط..
نحن أمام عصابات ولوبيات منظمة:
إن السؤال الذي يفرض نفسه علينا، هو من نواجه اليوم؟ لا شك أن النوازل والوقائع تبين أن الأمر لا يتعلق بحالات فردية مبنية على الصدفة أو على ملابسات شخصية لمرتكبيها، بل الأمر تجاوز ذلك إلى عصابات ولوبيات منظمة محترفة تضم أحيانا عناصر أجنبية قد تقوم بجزء من أنشطتها حتى خارج التراب المغربي.
نحن نواجه اليوم، أشخاصا محترفين في رصد الثغرات القانونية والتجاوزات الإدارية، وتصيد ضعاف النفوس من موظفين ومهنيين وقانونيين من أجل مساعدتهم على الاستيلاء على عقارات الغير، إما زورا أو احتيالا ونصبا.
نحن أمام جهات، تحرك عن بعد أشخاصا مهمشين اجتماعيا مقابل إغراءات مالية بسيطة لاستعمالهم كواجهات لإجرامهم حتى يتملصوا هم من المسؤولية والعقاب .
المقاربة التشاركية:
تتطلب منا هذه المعطيات بكل تأكيد مقاربة تشاركية وخطة شمولية متكاملة لتفصيل كل هذه العناصر الواقعية والإحاطة بكل جزئياتها، مقاربة تجمع بين التحسيس والتكوين والحكامة والردع.
إن لدينا مناطق تماس ومداخل يجب تحصينها لمواجهة هذه العصابات.
مناطق ذات طبيعة قانونية صرفة أحيانا ويجب تعديلها من قبيل عقود الوكالات التي يتم استعمالها دائما في عمليات الاستيلاء، ويجب ضبط توثيقها لتكون أكثر تحصينا وأقل اختراقا.
المادة 2 من مدونة الحقوق العينية تكرس أوضاعا غير منطقية:
هنا أشير بإيجابية إلى مشروع القانون رقم 16-69 الذي أخذ مساره التشريعي في الأيام القليلة الماضية، والذي يرمي إلى إدخال الوكالة ضمن الوثائق الواجب تحريرها بعقد رسمي أو من طرف محام مؤهل لذلك.
كما أن المادة 22 من مدونة الحقوق العينية بصيغتها الحالية، لا شك أنها ستساهم في تكريس هذه الأوضاع غير المنطقية وستؤدي إلى ضياع الحقوق والمس بالأمن العقاري للأفراد خاصة فيما يتعلق بأجل الأربع سنوات المنصوص عليها لرفع دعوى المطالبة بالحق والذي يستغل في الاستيلاء على أراضي الملك الخاص للدولة .
هذه الملاحظة التي تقاسمها عدد كبير من الفقه والقضاء والممارسين وبدأ ضحاياها يظهرون بشكل مقلق مما يقتضي في نظري تفاعلا تشريعيا يضبط هذه الأوضاع ويحقق التوازنات المنشودة بكل حكمة وواقعية.
احتكار المعلومة بشأن العقارات:
وهناك مناطق ذات ارتباط بالعنصر البشري الإداري الذي يكون للأسف في كثير من الأحيان هو منطلق الشرارة ومصدر المعلومة التي تستغلها هذه العصابات للاستيلاء على عقار غاب مالكه أو هجره أو أهمله لسبب من الأسباب، وهنا لا بد من الحديث بجدية وبصراحة عن التجاوزات التي يقوم بها للأسف بعض الأشخاص بالنظر إلى احتكارهم للمعلومات حول الوضعيات الواقعية والقانونية لهذا النوع من العقارات ويقومون بتوظيفها واستغلالها للاستيلاء على أموال الناس زورا أو بهتانا.
هذا الوضع يقتضي منا التركيز على هذه الفئة التي توجد في الجبهة الأمامية للمواجهة حتى يتم الحد بشكل كبير من نشاط هذه اللوبيات، وذلك من خلال اتخاذ أكبر الاحتياطات عند الشك في صحة معاملة عقارية تحوم حولها الشكوك أو الريبة.
الدور الأساسي لمختلف المتدخلين في تطهير هذا المجال من المتلاعبين والمستهترين:
كما يجب التأكيد على الدور الأساسي والمحوري للمحافظة العقارية كمصدر للمعلومة وللوثائق وكفضاء خدماتي يتعين مواصلة تحديثه وتطوير آليات اشتغاله حتى يتاح للملاك الإطلاع بشفافية ويسر على وضعية أملاكهم دون عناء أو كلفة أو تأخير.
هذا دون إغفال أن العملية العقارية تضم متدخلين آخرين يجب عليهم الانخراط بكل إيجابية والمشاركة في تطهير هذا المجال من المتلاعبين والمستهترين والمخلين بواجباتهم المهنية عمدا أو إهمالا.
وهنا أؤكد على ضرورة وضع برنامج تكويني وتحسيسي جاد عملي يضم إلى جانب أطر المحافظة العقارية موظفي الإدارة الضريبية، والمصالح المكلفة بالمصادقة على الإمضاء، ومهنيي توثيق التصرفات العقارية، من موثقين وعدول ومحامين، كإحدى الآليات الاستباقية والوقائية لمواجهة هذه الحالات الإجرامية.
لمؤسسة القضائية وحماية الحقوق:
لا شك أن المؤسسة القضائية تبقى دائما هي الملزمة دستوريا وقانونيا أو أخلاقيا بحماية الحقوق وضمان إيصالها لأهلها وترسيخ الأمن بكل تجلياته، ومنه الأمن العقاري.
وهنا لا بد من التأكيد على أن القضاء أصدر في الكثير من المناسبات أحكاما صارمة في حق المتلاعبين في قضايا العقار، لكن المقاربة الوقائية تقتضي منا أيضا بذل المزيد من الجهد والحرص، خاصة على مستوى النيابة العامة في تنسيقها مع الجهات المكلفة بالتوثيق بخصوص المعاملات العقارية، المتعلقة بأملاك الغير من أجل ضبط كل حالات التزوير والنصب والاحتيال والتعامل بجدية مع قضايا تذييل العقود بالصيغة التنفيذية المتعلقة بهذه المعاملات وكذا القيام بكافة الإجراءات اللازمة لحجز هذه العقارات التي تكون موضوع تصرفات جرمية.
والأكيد أن كل هذه التدابير وغيرها لن تجدي إذا لم يتم خلق جو من التعبئة والصرامة والجدية والقطع مع منطق التساهل والتردد وتفعيل آليات المسؤولية والمحاسبة في مواجهة الجميع.
ورش كبير يثير الكثير من الإشكالات:
إذن نحن أمام ورش يثير الكثير من الإشكالات ويسائل منظومتنا الإدارية والقانونية والقضائية، وكذا مستوى حكامتنا التي ندبر بها مجالا حيويا كبيرا ألا وهو العقار.
ولا أحتاج في هذا المقام إلى التذكير بمقتطف هام من الرسالة المولوية السامية التي وجها جلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتأييد للمؤتمرين بالمناظرة الوطنية حول السياسة العقارية للدولة في شهر دجنبر من سنة 2015، حيث جاء فيها: «….. وبالنظر للطابع الأفقي لقطاع العقار، فإن الإكراهات والرهانات التي تواجهه تعد أمرا مشتركا بين مختلف الفاعلين والمهتمين به. لذا، فإن معالجتها تقتضي اعتماد منظور شامل، يستحضر كافة الأبعاد القانونية والمؤسساتية والتنظيمية والإجرائية، ويراعي خصوصيات هذا القطاع، وطبيعة بنيته المركبة والمتشابكة، الناتجة عن تداخل مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية…» (انتهى النطق الملكي) .
إنها رسالة ملكية برؤية حكيمة متبصرة تعد خارطة طريق لنا جميعا للوصول إلى الأمن العقاري الداعم للتنمية في تجلياتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.
ولي اليقين أن هذا اللقاء سيكون محطة هامة لنبرز مستوى حرصنا على تفعيل هذه المقتضيات ومواجهة كل التحديات. ويبدو لي مناسبا أن نقوم بأجرأة وتفعيل عملية إحصاء العقارات التي يملكها الأجانب والمغاربة المقيمين بالخارج وأراضي الغياب بصفة عامة، وتضمين معلوماتها بكل تفصيل وشفافية في سجل وطني على دعامة ورقية وإلكترونية يكون تحت إشراف السلطات المختصة لتسهل عملية التتبع والمراقبة والضبط.
كما يجب أن نحدث آلية دائمة للرصد واليقظة تضم كل ممثلي السلطات ذات الصلة قصد مواكبة كل المستجدات وإعداد تقارير حول جميع الإشكاليات المثارة واقتراح حلول بشأنها ترفع لكل الجهات المعنية، مع وضع برنامج تكويني محدد الأهداف يستفيد منه جميع المهنيين والفاعلين في قطاع العقار، وفتح كل آليات التواصل في وجه العموم قصد التبليغ عن تظلماته وشكاياته وملاحظاته بخصوص هذا الموضوع.

اقرأ أيضاً: