الرئيسية غير مصنف الإعلام في خدمة العدالة: تكامل الأدوار دون المساس باستقلال القضاء

الإعلام في خدمة العدالة: تكامل الأدوار دون المساس باستقلال القضاء

6bbe6d26 d4f6 47ee acef dfc48783f252
كتبه كتب في 10 أبريل، 2025 - 3:10 مساءً

بقلم: عزيز بنحريميدة

في بيئة إعلامية تتسم بتسارع وتيرة الأحداث وتزايد التغطية الفورية للقضايا القضائية، يبرز التحدي الأكبر أمام الإعلام المهني: كيف يحقق التوازن بين واجب الإخبار واحترام قدسية العدالة؟ إنه سؤال جوهري يتقاطع فيه الإعلام بالقضاء عند مفترق المهنية، الأخلاقيات، والالتزام بسيادة القانون.

لقد أصبح الإعلام اليوم أحد الفاعلين الأساسيين في التأثير على الرأي العام، ما يمنحه دورًا مزدوجًا: تثقيفي من جهة، ورقابي من جهة أخرى. غير أن هذا الدور لا يجب أن يتحول إلى أداة ضغط على المؤسسة القضائية، أو إلى منبر لإصدار أحكام موازية خارج قاعات المحاكم. فالأساس الذي تُبنى عليه دولة الحق والقانون يقتضي استقلال القضاء، وهو ما يفرض على الإعلام الامتثال لضوابط صارمة في تغطية الملفات المعروضة على أنظار العدالة.

في ظرفية تتسم بسرعة تدفق المعلومات وتزايد تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام، حيث يبرز دور الإعلام المهني كفاعل أساسي في تعزيز قيم العدالة والشفافية داخل المجتمع. غير أن هذا الدور لا يكتمل إلا حينما يراعي الإعلام ضوابط المهنة ولا يتجاوز الخطوط الحمراء التي قد تمسّ بحقوق الأفراد أو تؤثر سلبًا على مسار العدالة.

إنّ العلاقة بين الإعلام والعدالة علاقة دقيقة، تتطلب توازنًا بين الحق في الإخبار وحرية التعبير من جهة، وبين ضرورة احترام استقلالية القضاء وسرية التحقيقات من جهة أخرى. فحينما يتناول الإعلام ملفات معروضة أمام العدالة، يكون مطالبًا بمهنية عالية تُجنّبه الوقوع في فخ التشهير أو التحريض أو إصدار “أحكام مسبقة” قد تؤثر على مسار المحاكمات أو تخلق ضغطًا شعبيًا على القضاة.

الإعلام المهني لا يُدين ولا يُبرئ، بل يكتفي بعرض الوقائع وتحليلها في إطار قانوني وأخلاقي. كما يحرص على نقل وجهات النظر المختلفة، بما في ذلك رأي الدفاع والادعاء، دون الانحياز أو الإثارة المجانية. وبهذا، يُسهم الإعلام في رفع الوعي القانوني لدى المواطن، ويفتح النقاش العام حول قضايا تهم المجتمع، دون أن يتحول إلى محكمة بديلة.

ولعل أبرز مثال على هذا الانسجام بين الإعلام والعدالة، هو التزام عدد من المؤسسات الإعلامية الرصينة بمواثيق شرف تُلزم الصحفيين بعدم نشر معلومات مغلوطة أو جزئية، خاصة حينما يتعلق الأمر بملفات حساسة أو قضايا لم تُحسم بعد قضائيًا.

وفي ظل تنامي الإعلام الرقمي وسرعة انتشار الأخبار الزائفة، تصبح الحاجة ماسة لإعلام مسؤول يُدرك أن الكلمة أمانة، وأن خدمة العدالة لا تعني الانخراط في حملة إدانة أو تبرئة، بل تعني أولًا وأخيرًا احترام سلطة القضاء، وضمان حق المتقاضين في محاكمة عادلة.

فالعمل الصحفي المهني لا ينطلق من منطق الإثارة أو السبق على حساب الدقة، بل يستند إلى قواعد واضحة في التناول الإعلامي للقضايا القضائية. من أبرزها الامتناع عن التشهير، واحترام قرينة البراءة، وعدم التأثير على المسار الطبيعي للتحقيقات والمحاكمات. كما أن الالتزام بميثاق أخلاقيات المهنة يفرض تجنب تسريب معطيات قد تضر بمصلحة المتقاضين أو تخلّ بسير العدالة.

وفي هذا السياق، تؤكد التجارب المقارنة أن الإعلام، حينما يشتغل ضمن حدود المسؤولية والمهنية، يمكن أن يكون شريكًا حقيقيًا في ترسيخ العدالة. بل إنه يُسهم في ضمان المحاكمة العادلة من خلال نقل مجريات القضايا الكبرى للرأي العام دون تحريف أو انحياز، مع الحفاظ على الحياد والموضوعية. ذلك أن الصحافة لا تحل محل القضاء، ولا تسعى إلى النطق بالأحكام، وإنما دورها يكمن في إضاءة الرأي العام ومساءلة المؤسسات دون تجاوز خطوط القانون.

وفي مواجهة تحديات الإعلام الرقمي، حيث تنتشر الأخبار غير المؤكدة بسرعة قياسية، يصبح لزامًا على المؤسسات الإعلامية تعزيز آليات الضبط الذاتي، وتكوين الصحفيين في المجال القانوني والقضائي، بما يتيح لهم فهم طبيعة المساطر وتعقيداتها، والتعامل معها بوعي واحتراف.

فلا يمكن تصور إعلام حر ومسؤول دون قضاء مستقل، كما لا يمكن لقضاء مستقل أن يزدهر في بيئة إعلامية منفلتة من الضوابط. فحين تنسجم المهنية الإعلامية مع مقتضيات العدالة، يصبح الإعلام رافعة حقيقية لدولة الحق، لا عبئًا على مرفق القضاء،،حيث يمكن القول إن الإعلام الذي يُحسن أداء دوره في ظل احترام ضوابط القانون وأخلاقيات المهنة، يُعد شريكًا فعّالًا للعدالة، لا خصمًا لها. ومتى تحقق هذا التوازن، أصبح الإعلام فعلًا في خدمة الحقيقة، لا وسيلة للتأثير أو التشويش

مشاركة