الرئيسية آراء وأقلام استقـــــلال النيابـــــــة العامــــــة

استقـــــلال النيابـــــــة العامــــــة

téléchargement 16.jpg
كتبه كتب في 25 سبتمبر، 2016 - 9:05 مساءً

مقدمـــــــــة:

يعتبر استقلال القضاء من المبادئ الأساسية لكل نظام قضائي حديث، بل لنظام الحكم السياسي كله، و يفرض إيلاء مؤسسته و رجاله مكانة متميزة بين سلط الدولة الأخرى.

ذلك أن استقلال السلطة القضائية، باعتباره مبدأ دستوريا، تفرضه طبيعة القضاء ذاته. فبدون هذا الاستقلال، لا يمكن للمحاكم أن تنال ثقة المتقاضين، و لا أن يفوضوا لها النظر في أمور تتعلق بأشخاصهم و شرفهم و أموالهم…

و إذا كان موضوع استقلال القضاء بصفة عامة قد حضي بدراسات وافية، و عقدت حوله ندوات متعددة، فإنه غالبا ما ينصب الاهتمام على استقلال القضاء الجالس. بينما الدراسات التي تتناول جهاز النيابة العامة على هذا المستوى فهي قليلة لا تتجاوز مسألة اختصاصاتها و دورها في تحريك الدعوى العمومية، أو خصوصية تدخلها في القضايا المدنية.

في حين أن الضمانات التي يجب ان تحكم عمل القضاء هي تلك الضمانات التي تمكن القاضي أن يعمل في اطار محكم من الاستقلال، سواء تعلق الأمر بقضاة تحقيق أو قضاة حكم أو ممثلين للنيابة العامة.

و من هذا المنطلق، فإن الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع، تتعلق بمجال استقلالية النيابة العامة في المغرب، و بالإطار القانوني و الوظيفي الذي تتجدد به هذه الاستقلالية.

و عليه نقترح أن نعرض هذا الموضوع من خلال فصلين بحيث نتناول في الفصل الأول منه الوضعية القانونية لقضاة النيابة العامة، مع التركيز على المقتضيات التي تساهم في تحصين استقلالهم أو على العكس من ذلك يكون لها تأثير سلبي على هذا الاستقلال بشكل أو بآخر. و في الفصل الثاني، ارتأينا أن نتناول مجال استقلالية النيابة العامة اثناء قيامها بمهامها سواء في إطار علاقتها بقضاء الحكم أو قضاء التحقيق أو علاقتها مع أطراف الدعوى العمومية، خصوصا انها تعتبر بدورها طرف رئيسي في هذه الدعوى. و هذا دون أن  نفس مسألة حدود هذه الاستقلالية فيما يتعلق بممارسة النيابة العامة لبعض الاختصاصات المخولة لها، و التي يمكن أن تؤدي الى التشويش على حقوق و حريات المواطنين.

الفصل الأول: الوضعية القانونية للنيابة العامة:

تتميز الوضعية القانونية للنيابة العامة بازدواجية صفتها، فهي من جهة تعتبر ممثل مباشر للسلطة التنفيذية و طرف رئيس في الدعوى، و من جهة أخرى، تعتبر جزءا لا يتجزأ من الهيئة القضائية. و لهذه الازدواجية أثرها على النظام القانوني للنيابة العامة، كما على الصلاحيات المنوطة بها.

المبحث الأول: ارتباط النيابة العامة بالسلطة التنفيذية:

لقد أثار هذا الارتباط نقاشا مستفيضا، و خلافات كبيرة بين الفقهاء و الباحثين، و انقسم الرأي حول هذا الموضوع الى اتجاهات ثلاث:

–  اتجاه يرى أن النيابة العامة هي جزء من السلطة القضائية، لأن أعضاء النيابة العامة ليسوا في نهاية المطاف سوى قضاة يخضعون للنظام الأساسي لرجال القضاء من حيث تعيينهم و ترقيتهم و تأديبهم، و لهذا فهم عادة ما يتأرجحون في مهامهم بين تحمل مهام القضاء الجالس و مهام القضاء الواقف.

–  و اتجاه ثان يغلب الصفة الإدارية للنيابة العامة على صفتها القضائية، و دليله على ذلك أن النيابة العامة تخضع للتسلسل الرئاسي تحث اشراف وزير العدل خلافا لقضاء الحكم.

–  و اتجاه ثالث يرى أن هناك امكانية لاعتماد حل وسط يجمع بين الرأيين السابقين،         و يقوم هذا الاتجاه على فكرة ان النيابة العامة و ان كانت جزءا من السلطة القضائية، فإنه في نفس الوقت لا يمكن أن نغض الطرف عن حقيقة واضحة و هي أنها تربطها علاقات وطيدة بالسلطة التنفيذية. و سيما هذا الاتجاه بأنها ” قضاء من نوع خاص   أو قضاء مختلط” [1].

فما هو مدلول هذا الارتباط ؟ [المطلب الأول] و ما هي حدوده [المطلب الثاني]

المطلب الأول: خضوع النيابة العامة للتسلسل الرئاسي:

إن مبدأ خضوع النيابة العامة للسلطة الرئاسية يعني ان على عضو النيابة الامتثال للأوامر و التعليمات التي يوجهها اليه رؤساؤه المباشرون، و هكذا فإن نواب وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية يفرض عليهم القانون الالتزام بتوجيهات رئيسهم المباشر الذي هو وكيل الملك. كما ان الوكيل العام للملك سلطة اعطاء تعليمات يتعين على نوابه و كذا وكيـل الملك أو وكلاء الملك العاملين بالدائرة القضائية  لمحكمـة الاستئناف احترامهـا

 

[1] انظر هذا الرأي عند: ذ محمد عياط، دراسة في المسطرة الجنائية المغربية، ج 1 طبعة 1، 1791 ص 71.

و العمل بها، كما أن الوكيل العام للملك بالمجلس الأعلى له سلطة مباشرة على المحامين العامين و على الوكلاء العامين بمحاكم الاستئناف و وكلاء الملك.

و يوجد على رأس هذا التسلسل الرئاسي وزير العدل، فهذا الأخير هو الرئيس الأول و المباشر لأعضاء النيابة العامة، رغم أنه لا ينتمي الى سلك القضاء، و هو جزء من السلطة التنفيذية باعتباره عضو في الحكومة. و في هذا الإطار ينص الفصل 56 من قانون 11-11-1974 بمثابة النظام الأساسي لرجال القضاء على أنه “يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة وزير العدل و مراقبة و تسيير رؤسائهم الأعلين” و هذا ما يؤكد الارتباط القوي بين جهاز النيابة العامة و الجهاز التنفيذي.

إن الخضوع لسلطة الوزير، و احترام التسلسل الرئاسي هو القاعدة الأساسية في نظام الإدارة العمومية، ” و يعني سريانها على أعضاء النيابة العامة أنها تتدرج بدورها في نفس النظام، بحيث يضفي على الهيئة القضائية صفة لا تنسجم مع مبدأ الاستقلال الذي يعني مباشرة اخراجها من ميدان الإدارة بصفتها أداة السلطة التنفيذية” [1]

و هذا الخضوع للنيابة العامة الى سلطة وزير العدل، أو واجب احترام التسلسل الترتيبي يمكن ان نستشفه من عدة مقتضيات منصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية.  و هكذا فإن المادة 38 تنص على أنه ” يجب على النيابة العامة أن تقدم ملتمسات كتابية، طبقا للتعليمات التي تتلقاها، ضمن الشروط المنصوص عليها في المادة 51.

و المادة 49 تنص صراحة على أن الوكيل العام للملك يتلقى الشكايات و الوشايات   و المحاضر الموجهة اليه، و يتخذ بشأنها ما يراه ملائما من الإجراءات، أو يرسلها مرفقة بتعليماته الى وكيل الملك المختص.

كما أن المادة 51 تنص على أنه لوزير العدل أن يبلغ للوكيل العام للملك ما يصل الى علمه من مخالفات للقانون الجنائي، و أن يأمره كتابة بمتابعة  مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك، أو أن يرفع الى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية.

       و تتجلى أيضا سلطة وزير العدل من الفصل 3 من مرسوم 23/12/1975 الخاص بشروط و كيفية تنقيط القضاة و ترقيتهم، فوزير العدل هو الذي يسهر بنفسه على تنقيط الوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف. و هذا يعني أنه هو الذي يتحكم الى حد بعيد في زمام

 

[1] انظر في الشأن: د محمد الادريسي العلمي المشيشي. المسطرة الجنائية، الجزء 1: المؤسسات القضائية، منشورات جمعية تنمية البحوث   و الدراسات القضائية طبعة 1991 ص 63.

السرعة التي تتم بها ترقياتهم الى درجات أعلى [1]

و بالرغم من  أن  هذه المقتضيات تدل دلالة قوية  على مدى  خضوع النيابة  العامة لنظام التسلسل الرئاسي، فإنه يمكن مع ذلك ان نتصور إمكانية التخفيف من صرامة هذا المبدأ.

المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على خضوع النيابة العامة للسلطة الرئاسية :

إن اعتبار النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية، لا يمنع من اتصافها مميزات خاصة بها نظرا لوظيفتها المتصلة بالسلطة القضائية. ذلك لأن النيابة العامة بصفتها ممثلة الحق العام، تتوخى تطبيق القانون في اطار المصلحة العامة، بما فيها الفائدة التي يرجوها الخواص من جناة و مجني عليهم، الشيء الذي يتطلب توفر صفات هي من صميم شخصية القاضي  من إلمام بالقانون و بحث عن الموضوعية و تعرف باستقلال و حرية و فق ما يمليه ضمير الإنسان الحر و قناعاته التي يكونها من متابعته للقضايا و الملفات.

و هكذا فإن مبدأ خضوع النيابة العامة للسلطة الرئاسية يمكن أن تحده مجموعة من الاعتبارات أو الاستثناءات التي يمكن ان نجملها فيما يلي:

أولا: إن الإجراءات التي يقوم عضو النيابة العامة تكون صحيحة و سليمة، بالرغم من انها قد تباشر بالشكل الذي تتعارض معه أوامر و تعليمات رئيسه و يمكن ان نتصور هذه الحالة عندما يتسلح عضو النيابة العامة بالثقة اللازمة اثناء قيامه بمهامه و بالجرأة في الدفاع عن مواقفه و قناعاته. و مع ذلك فإن الرئيس الذي يكون معارضا لتوجهه يمكن له أن يغيره بأحد زملائه لإتمام باقي الإجراءات وفق توجهاته، أو أن يعطي تعليماته لعضو آخر من اعضاء النيابة لكي يمارس بشأن الإجراءات الأولى طرق الطعن المخولة له ان يمارسها أو أن يمارسها بنفسه.

ثانيا: كما يمكن للنيابة العامة أن تمارس حريتها و أن تتحرر من التقيد بتعليمات الرؤساء من خلال استغلال الرخصة المخولة لها في المادة 38 من ق م ج التي تنص على أنها ” و هي حرة في تقديم الملاحظات الشفهية التي ترى أنها ضرورية لفائدة العدالة، و ذلك بالاقتصار على تنفيذ التعليمات من خلال ملتمساتها الكتابية، و الإفصاح عن قناعتها الشخصية شفويا أثناء جلسات الحكم، وفق منطوق المثل الفرنسي القائل بأن: القلم عبد و الكلمة حرة.

المبحث الثاني: نسبية الضمانات القانونية لأعضاء النيابة العامة:

بالرغم من أن أعضاء النيابة العامة يخضعون كزملائهم قضاة الحكم لظهير  11 نونبر 1974 بمثابة القانون  الأساسي  لرجال القضاء. فإنه مع ذلك تتميز الضمانات الممنوحة

أورده الدكتور محمد عياط في مرجعه السابق، ص 72.

لهم بسمات خاصة ناجمة عن خضوعهم لسلطة وزير العدل و مراقبة و توجيه رؤسائهم،  و ذلك سواء فيما يتعلق بضمانات التعيين و الترقية [المطلب الأول] أو فيما يتعلق بتأديبهم [المطلب الثاني].

المطلب الأول: الضمانات القانونية بشأن التعيين و الترقية:

تجدر الإشارة الى أن الملاحظات التي سنبديها بخصوص موضوع تعيين أعضاء النيابة العامة و ترقيتهم، تنطبق أيضا على قضاة الحكم: ذلك لأن ظهير1974/11/11  لا يقيم أي تميز على هذا المستوى.

و هكذا فإن القانون الأساسي لرجال القضاء ينص على طريقتين لتعيين القضاة: طريق المباراة و طريق التعيين المباشر.

فالطريق الأول يخضع له الملحقون القضائيون الحاصلون على الإجازة و الناجحون في مباراة ولوج المعهد العالي للدراسات القضائية و المجتازون لفترة التدريب فيه، حيث يتم تعيينهم بظهير شريف باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء. أما الطريق الثاني المتعلق بالتعيين المباشر فيخص أساتذة الحقوق الذين درسوا مادة أساسية لمدة 10 سنوات،  أو المحامين الذين زاولوا مهمة الدفاع لمدة 15 سنة، يعين هؤلاء أيضا بظهير باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء.

” و ما يلاحظ على الطريقتين معا هو هيمنة وزارة العدل التي تتحكم في كل مراحل هذه المسطرة، بحيث يقتصر دور المجلس الأعلى للقضاء على تزكية التعيين ليس إلا” [1] باعتبار ان وزير العدل هو نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذي هو الملك.

و هو الأمر الذي يثير جملة من التساؤلات و الملاحظات تصب في صلب مسألة استقلال القضاء بصفة عامة، و ليس فقط استقلال النيابة العامة.

و نفس الأمر ينطبق على مسألة ترقية القضاة، فبالرجوع الى ظهير 11 نونبر 1974 و خاصة الفصول من 23 الى 25 و كذا الى مرسوم 8 أبريل 1975 بشأن ترتيب درجات الترقي و الأرقام الاستدلالية، و أيضا مرسوم 23 دجنبر 1975 بشأن تحديد شروط و كيفية تنقيط القضاة و ترقيتهم، نلاحظ الدور الخطير الذي يضطلع به وزير العدل في هذا الشأن.

و هكذا فإذا كانت ترقية القضاة تتم بصورة أساسية من خلال التسجيل في لائحة الأهلية للترقي، فإن وضع هذه اللائحة يتم من طرف وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء استنادا الى معيار واسع و غير دقيق و هو ما تقتضيه المصلحة.

 

[1]انظر في هذا الشأن ذ عبد العزيز حضري، القانون القضائي الخاص الطبعة الثالثة 2002 مطبعة الحيور-وجدة ص 42

و قد تعرضت هذه المسألة لانتقادات كبيرة من طرف الباحثين و الفقهاء، لأنه في نظرهم “إذا اعتمدنا ، على اعتبار المشرع، التسجيل في لائحة الترقية شرطا ضروريا للترشيح، للترقية من جهة، و إعطاء وزير العدل السلطة المطلقة من جهة ثانية، في حصر هذه اللائحة، فإن المشرع بذلك قد وضع حق “منح جواز المرور” للترقية بيد السلطة التنفيذية التي يمثلها وزير العدل [1]

و هذا ما يتعارض مع مبدأ استقلال القضاء الذي يفرض على أن يتولى المجلس الأعلى للقضاء إعداد هذه اللوائح وفق معايير محددة و موضوعية منصوص عليها في القانون.

بل إن وزير العدل بالإضافة الى ما سبق، فإنه يملك حق الحذف من لائحة الأهلية للترقي بعد حصرها كإجراء تأديبي، و هو الحق الذي يجعل منه المتحكم كليا في زمام ترقية القضاة سواء كانوا قضاة حكم أو قضاة النيابة العامة.

المطلب الثاني: نسبية حصانتي العزل و النقل بالنسبة لقضاة النيابة العامة:

تعتبر عدم قابلية القضاة للنقل و العزل، أهم ضمانة دستورية للقضاة على الإطلاق. غير أن هذه الحصانة خاصة بقضاة الأحكام وحدهم بنص الدستور، و لا تشمل قضاة النيابة العامة طبقا للفصل 82 من الدستور الذي ورد فيه أنه “لا يعزل قضاة الأحكام و لا ينقلون الا بمقتضى القانون”.

و هكذا يتضح جليا أن قضاة النيابة العامة لا يتمتعون بهذه الحصانة الدستورية، بالشكل الذي يجعلهم معرضون للنقل لأي سبب من الأسباب بل و حتى بدون مبرر، و بذلك يمكن التأثير عليهم أكثر لاتباع الأوامر و التعليمات الموجهة اليهم، كما يتأتى لرؤسائهم بسهولة اختيار ممثل النيابة العامة، و وضعه في المكان المناسب [1] مادام أنه خاضع للسلطة الرئاسية.

غير أنه بالرجوع الى القانون الأساسي لرجال القضاء تبين أن هذه الملاحظة تنسحب  أيضا على قضاة الأحكام، ذلك انه اذا كان النقل الذي يكون نتيجة لترقية القاضي أو تكليفه بمهام معينة أو بناءا على طلبه لا يثير أي إشكال بشأن مدى احترام مبدأ عدم قابلية القاضي أو النقل في اطار الانتداب [ف 57 من ن.أ.ق] يبرز تدخلا واضحا للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل [2]

1-انظر في هذا الشأن مقالة الأستاذ عبد اقادر حسني بعنوان: حول استقلال القضاء و الدفاع بالمغرب ضمن مجلة القانون و الاقتصاد كلية الحقوق فاس العدد 6 –1990 ص 64.

[1] انظر د محمد عياط دراسة في المسطرة الجنائية المغربية ، مرجع سابق ص 73.

[2] انظر د عبد العزيز حضري، القانون القضائي الخاص مرجع سابق ص 43.

ذلك أنه طبقا للفصل 55 من القانون الأساسي المعدل بتاريخ 02/07/1977 أصبح بإمكان الإدارة أن تنقل قاضيا من قضاة الأحكام لتدارك نقصان في عدد القضاة يكون له تأثير خطير على سير محكمة من المحاكم”. و لاشك أن هذا المنطوق – كما يقول الأستاذ محمد عياط [3] يخول الإدارة سلطة تقديرية واسعة تتمكن بها إذا ظهر لها أن تنقل القاضي الجالس بدون إشكال، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار النقص الذي تعاني منه المحاكم المغربية في عدد القضاة و تضخم حجم القضايا المعروضة عليها.

و بذلك نجد أن وضعية القاضي الجالس و القاضي الواقف متماثلة تقريبا، اللهم الاختلاف الموجود على مستوى الشكل، ذلك أن قاضي الحكم يتم نقله بظهير باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء [ف 55 من ن.أ] في حين أن قاضي النيابة العامة يتم نقله بظهير باقتراح من وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء [ف 56 من ن .أ] و لو أنه من الناحية العملية، ليس لهذا الاختلاف أثر يذكر مادام ان استشارة وزير العدل للمجلس الأعلى للقضاء ليس لها أي طابع إلزامي بحكم انه هو الذي ينوب عن جلالة الملك في رئاسته الفعلية.

و نعتقد أن الأمر ينطبق كذلك على مسألة عزل القضاة، حيث يتمتع وزير العدل بصلاحيات كبيرة في مجال المساءلة و التأديب سواء تعلق الأمر بقضاة النيابة العامة أو قضاة الأحكام [1]، بخلاف الرأي الذي يذهب اليه الأستاذ محمد عياط من أن قضاة النيابة العامة خلافا لقضاة الحكم يتمتعون بحصانة العزل دون حصانة النقل [2]

و إذا كان المجال لا يتسع للتعرض لمسطرة متابعة القضاة تأديبيا، فإن مقتضيات الفصل 61 و ما بعده من ظهير 11 نونبر 1974 تثير بعد الملاحظات [3]

– لقد جعل المشرع تحريك مسطرة المتابعة التأديبية بيد وزير العدل، فهو الذي يحيل الوقائع المنسوبة إلى القاضي على المجلس الأعلى للقضاء، و هو الذي يعين القاضي المقرر بعد استشارة  أعضاء المجلس  المعينون بقوة القانون فقط دون غيرهم من الأعضاء المنتخبين.

– كما أن الفصل 60 من هذا القانون يخول لوزير العدل إصدار العقوبات من الدرجة الأولى [الإنذار+التوبيخ+التأخير من الترقي+الحذف من لائحة الأهلية للترقي] في حق القضاة بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء، و هي عقوبات يتحكم فيها الوزير لأن رأي المجلس لا يعد و أن يكون استشاريا.

 

[3] د محمد عياط المرجع السابق، ص 74.

[1] عبد العزيز حضري، القانون القضائي الخاص، مرجع سابق، ص 44.

[2] محمد عياط، مرجع سابق، ص 73.

[3] انظر في هذا الشأن ذ عبد القادر حسني، حول استقلال القضاء و الدفاع بالمغرب، مرجع سابق، ص 63.

 

بل إن الفصل 62 من الظهير يمنح وزير العدل حق توقيف القاضي عن مزاولة مهامه في حالة ما اذا كان متابعا جنائيا، أو إذا ارتكب خطأ جسيما. و اذا التوقيف من اجل السبب الأول أمرا معقولا، فإن التوقيف من اجل الخطأ الجسيم يترك بيد الوزير سلطة تقديرية واسعة لتقدير مفهوم الخطأ الجسيم.

لذلك ما فتئ رجال القانون ينتقدون هذا الأمر، و يعتبرونه إخلالا واضحا ليس فقط باستقلال مؤسسة النيابة العامة، و لكن باستقلال القضاء بصفة عامة و يتساءلون بالتالي عن مدى دستورية بعض المقتضيات التي جاء فيها ظهير 11 نونبر 1974.

و هكذا يطالب هؤلاء بضرورة مراجعة جميع الفصول التي تمنح وزير العدل صلاحيات التأديب بالإلغاء مطلقا، و مراجعة النصوص التي تجعل من نفس الوزير مهيمنا على اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء، الذي تحول الى هيئة استشارية، في حين أن الدستور يعطيه وحدة مهمة الإشراف على الحياة المهنية للقضاة سواء كانوا من قضاة الحكم أو من قضاة النيابة العامة [1].

[1] انظر في هذا الشأن كل من:

– هاشم العلوي، المجلس الأعلى للقضاء في ضوء التشريع المغربي و المقارن-دار النشر اقريقيا الشرق-الدار البيضاء طبعة 1988 ص 136.

– عبد العزيز حضري، القانون القضائي الخاص، مرجع سابق، ص 46.

الفصل الثاني: استقلال النيابة العامة مجاله و حدوده:

رغم ما سبق عرضه من ارتباط النيابة العامة بالسلطة التنفيذية و خضوعها للتسلسل الرئاسي الذي يميز نظام الإدارة العمومية ، فإنه لا مناص من الاعتراف بالاستقلال النظامي الذي تتمتع به سواء في مواجهة السلطة التنفيذية نفسها أو في مواجهة قضاء الحكم، أو في مواجهة أطراف الدعوى العمومية [المبحث الأول]؛ و مع ذلك فإن بعض أعمال النيابة العامة تخضع لنوع من الرقابة القضائية مما يفقدها استقلاليتها [المبحث الثاني].

المبحث الأول: مجال استقلالية ن ع في قيامها بالمهام المنوطة بها:

يظهر استقلال النيابة العامة في علاقتها مع القضاء الجالس [قضاء الحكم و قضاء التحقيق] و مع أطراف الدعوى العمومية [المجني عليه و الجاني].

المطلب الأول: استقلاليتها تجاه القضاء الجالس:

نتعرض في البداية لقضاء الحكم [الفرع الأول] ثم بعد ذلك لقضاء التحقيق [الفرع الثاني].

الفرع الأول: استقلالها عن قضاء الحكم

يتجلى استقلال النيابة العامة تجاه قضاء الحكم في أن هذا الأخير لا يحق له أن يوجه لها تعليمات و لا حتى ملاحظات تنطوي على تقييم لعملها أو موقفها. كما لا يجوز له ان يوجه اليها لوما أو توبيخا بصدد القيام بمهامها سواء أكان هذا اللوم أو التوبيخ شفويا أو مكتوبا.

و من مظاهر استقلال النيابة العامة عن قضاء الحكم أيضا، أن هذا الأخير ليس له حق المتابعة، أي أنه لا يستطيع أن يضع يده تلقائيا على القضايا للبث فيها ما لم توجهها اليه النيابة العامة. ما عدا حين يرفض له بذلك نص قانوني صريح مثل حالة اقتراف جريمة اثناء انعقاد جلسة المحاكمة، و ذلك مراعاة لهيبة القضاء.

الفرع الثاني: استقلالها عن قضاء التحقيق

و فيما يخص قضاء التحقيق فإن مبدأ استقلال التحقيق عن المتابعة يمنع قضاء التحقيق كذلك من وضع يده على النوازل الجنائية من تلقاء نفسه، بمعنى ان قضاة التحقيق  لا يستطيعون فتح بحث -أي مجرد تحريات للاطلاع على غرار ما تقوم به الشرطة القضائية- الا اذا سمح بذلك نص قانوني صريح كما هو الشأن بالنسبة لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية و خاصة المادة 75 منه التي تنص على انه اذا حضر قاضي التحقيق بمكان وقوع الجناية أو الجنحة المتلبس بها، فإن الوكيل العام للملك أو وكيل الملك و ضباط الشرطة القضائية يتخلون له عن القضية بقوة القانون.

غير أنه تجدر الإشارة هنا الى أن قضاة التحقيق يتصرفون في هذه الحالة بصفتهم ضباطا سامين للشرطة القضائية، و ليس بصفتهم رجال قضاء و هو ما تؤكده الفقرة الثانية من المادة 75 المذكورة.

المطلب الثاني: استقلاليتها تجاه أطراف الدعوى العمومية:

إن استقلال النيابة العامة تجاه أطراف الدعوى العمومية سواء كانوا من الجناة أو المجني عليهم أو من الجهات التي نصبت نفسا طرفا مدنيا للمطالبة بتعويض الأضرار اللاحقة بهم من جراء الجريمة. يتجلى في الصفة التي تتمتع بها النيابة العامة كطرف رئيسي في الدعوى يحركها و يمارسها من بدايتها الى نهايتها بناءا على المصلحة العامة أي مصلحة المجتمع التي يمثلها، من غير أن تؤثر الظروف و المبررات الذاتية للأطراف الأخرى على مواقفه و قناعاته، و خاصة بالنسبة للضحية أو المتضرر. فالنيابة العامة تبقى من مستقلة في مبادراتها و إجراءاتها فيمكنها أن تحرك الدعوى العمومية أو لا تحركها، و تقوم بالمتابعة أو تتوانى عن ذلك بصرف النظر عن موقف الضحية. و حتى في حالة استدعاء مباشر أو تكوين طرف مدني، فإن النيابة العامة ملزمة بالوقوف عند المطالبة بتطبيق القانون الشيء الذي يعني تطبيق العقوبة عند الاقتضاء، و يعني كذلك إبراء ساحة المتهم عندما تتكون القناعة بعدم ثبوت ارتكابه للأفعال المنسوبة اليه.

و حتى عندما تبادر النيابة العامة بإقامة الدعوى و تحريك المتابعة، فإنها تظل حرة إزاء موقف المجني عليه، فسواء تخلف هذا الأخير و لم يتدخل للمطالبة بحقه المدني، أو تنازل عن هذه المطالبة بعد تحريك الدعوى، و ذلك تبعا لصلح أبرمه مع الجاني، فإن النيابة العامة تظل حرة في متابعة إجراءات الدعوى، ذلك أن إمكانية الصلح بين الخصوم المنصوص عليها في المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية، مشروطة بموافقة وكيل الملك، و مصادقة رئيس المحكمة الابتدائية، كما هو الشأن أيضا بالنسبة للإمكانية المنصوص عليها في المادة 372 من قانون المسطرة الجنائية و المتعلقة بإيقاف سير إجراءات الدعوى العمومية في حالة تنازل الطرف المتضرر عن شكايته، فإنها مرتبطة بملتمس تقدمه النيابة العامة، التي يمكنها في كل حين مواصلة النظر في الدعوى العمومية، إذا ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، ما لم تكن قد سقطت بالتئام أو بسبب آخر حسب منطوق الفقرة الثانية من المادة 372 من ق م ج.

و حتى عندما تضطر النيابة العامة لمتابعة الدعوى العمومية بعد مبادرة المجني عليه بمسطرة الاستدعاء المباشر أو تكوين الطرف المدني، فإنها تبقى حرة في تكييف الوقائع، و لاشيء يلزمها باعتماد التكييف الذي يؤسس عليه الطرف المدني طلباته.

المبحث الثاني: حدود استقلالية النيابة العامة:

فضلا عن الحدود القانونية التي تعرضنا اليها بنوع من التفصيل بمناسبة حديثنا عن الوضعية القانونية لمؤسسة النيابة العامة، فإن ثمة حدود أخرى تمس بعض جوانب عمل النيابة العامة خصوصا فيما يتعلق ببعض الآليات و الصلاحيات الجديدة التي أعطاها المشرع من خلال قانون المسطرة الجنائية الذي دخل حيز التنفيذ في فاتح أكتوبر 2003. حيث أخضع مباشرة النيابة العامة لهذه الصلاحيات لرقابة قضاء الموضوع و هي إما رقابة قبلية أو رقابة بعدية [المطلب الأول] بالإضافة الى الرقابة القضائية التي يباشرها قاضي تطبيق العقوبات [المطلب الثاني].

المطلب الأول: الرقابة القضائية على عمل النيابة العامة:

و هي أما رقابة قبلية تمارس غالبا عن طريق الإذن أو الإشعار، أو رقابة بعدية تمارس عن طريق الإحالة إما تلقائيا أو بناءا على طلب.

الفرع الأول: الرقابة القبلية: هذه الرقابة تكون قبل ممارسة النيابة العامة لصلاحياتها الجديدة، و هي تتم كما قلنا إما عن طريق الإذن أو عن طريق الإشعار.

و هكذا يعتبر الإذن مسطرة تمكن قضاء الموضوع من ممارسة رقابته على أعمال النيابة العامة قبل ممارسة الإجراء، كما هو الحال بالنسبة للملتمس الذي يقدم الى الرئيس الأول لإصدار أمر بالتقاط المكالمات الهاتفية و الاتصالات المنجزة عن بعد، وفقا لما جاء في المادة 108 من قانون المسطرة الجنائية. و لعل السبب الذي جعل المشرع يخول هذه الرقابة لقضاء الموضوع، يكمن في حرصه على احترام الفصل 11 من الدستور الذي ينص على أنه “لا تنتهك حرمة المراسلات”، و لهذا جعل هذا الإذن ضمانة كبيرة لسرية الاتصالات، إذ يتأكد الرئيس الأول من أن ضرورة البحث تقتضي ذلك، و أن الأمر يتعلق بجرائم خطيرة تمس أمن الدولة و النظام العام كجرائم الإرهاب و المخدرات. و حتى في حالة الاستثناء التي يسمح فيها القانون للوكيل العام للملك بإصدار أمر كتابة بالتقاط المكالمات في حالة الاستعجال القصوى تفاديا لاندثار وسائل الإثبات، فإنه ألزم هذا الأخير بإشعار الرئيس الأول الذي يصدر تقرير داخل أجل 24 ساعة يؤيد بمقتضاه أو يلغي أو يعدل أمر الوكيل العام و لا يكون هذا المقرر قابلا لأي طعن .

الفرع الثاني: الرقابة البعدية: تتجلى هذه الرقابة من خلال الصلاحيات المخولة الى النيابة العامة في المجالات الآتية:

أولا: رقابة قضاء الموضوع لعمل النيابة العامة في الإشراف على الصلح:

تنص المادة 41 من ق م ج على أنه ” يمكن للمتضرر أو المشتكى به قبل إقامة الدعوى العمومية، و كلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر ” و بذلك يكون المشرع المغربي قد تبنى مبدأ الصلح كأسلوب مرن لفض النزاعات و سد باب الشقاق بصفة نهائية، و أعطى للنيابة العامة سلطة الإشراف على هذا الصلح من خلال محضر يتضمن ما اتفق عليه الطرفان، و إشعارهما أو اشعار دفاعهما بتاريخ جلسة غرفة المشورة. ثم تتم احالة هذا المحضر على رئيس المحكمة الابتدائية ليقوم بالتصديق عليه بغرفة المشورة بحضور ممثل ن ع و الأطراف أو دفاعهم، بموجب أمر قضائي لا يقبل أي طعن.

و هكذا تبين أن اشراف النيابة العامة على مسطرة الصلح يخضع لرقابة القضاء سواء على مستوى الشكل أو على مستوى الموضوع.

فعلى مستوى الشكل : يراقب رئيس المحكمة أو من ينوب عنه مدى احترام الشكليات التي حددتها الفقرة الثانية و ما بعدها من المادة 41 من ق م ج و المتمثلة في :

–       التحقق من هوية الأطراف أو دفاعهما ما لم يتنازلا عنه.

–       توقيع وكيل الملك و الأطراف على محضر الصلح.

–       إشعارهما بتاريخ جلسة غرفة المشورة.

و على مستوى الموضوع: يراقب رئيس المحكمة ما إذا كان الصلح قد انصب على الجرائم المحددة في المادة 41 من ق م ج أم لا؟ ثم يراقب ما اتفق عليه الطرفان لأنه لا يجب أن يكون في اتفاقهما مساس بالنظام العام، و يراقب مبلغ الغرامة، كما يراقب آجال تنفيذ الصلح.

ثانيا: رقابة قضاء الموضوع لأمر النيابة العامة بإرجاع الحالة الى ما كانت عليه:

أعطى المشرع للنيابة العامة من خلال المادتين 40 و 49 من ق م ج صلاحية إرجاع الحيازة إلى الأشخاص الذين كانت لديهم بمقتضى حكم قضائي تم تنفيذه، ثم انتزع منهم بفعل اعتداء جرمي. غير أن هذه السلطة التي منهما المشرع الى النيابة العامة قد أحاطها بضمانة أساسية جسدها في الرقابة القضائية، إذ يجب أن يعرض الأمر على المحكمة أو هيئة التحقيق التي رفعت إليها القضية أو التي سترفع إليها خلال ثلاثة أيام على الأكثر لتأييده أو تعديله أو إلغائه.

ثالثا: رقابة قضاء الموضوع لعمل النيابة العامة بالنسبة للسند التنفيذي و الأمر القضائي في المخالفات.

لقد وسع المشرع من اختصاص النيابة العامة و ذلك لتخفيف العبء على قضاء الموضوع حيث تنص المادة 375 من ق م ج على أنه ” يجوز للنيابة العامة في سائر الأحوال التي ترتكب فيها مخالفة يعاقب عليها القانون بغرامة مالية فقط، و يكون ارتكابها مثبتا في محضر أو تقرير و لا يظهر فيها متضرر أو ضحية أن تقترح على المخالف بمقتضى سند قابل للتنفيذ أداء غرامة جزافية تبلغ نصف الحد الأقصى للغرامة المنصوص عليها قانونا، و ذلك وفقا للشكليات المنصوص عليها في المادة 376 من ق م ج.

و في حالة قبول المخالف للاقتراح بعد تبليغه إليه شخصيا أو المسؤول عن الحقوق المدنية داخل أجل 10 أيام من التوصل به أن يعبر عن عدم رغبته في الأداء و ذلك بتصريح يضمن في نفس الرسالة فيبعث مضمونه مع الإشعار بالاستسلام الى وكيل الملك، و في هذه الحالة، يحال الملف على القاضي للبث فيه وفق القواعد العامة، و في حالة الإدانة يجب ألا يقل مبلغ الغرامة عن ثلثي ما هو مقرر قانونا.

المطلب الثاني: الرقابة القضائية على عمل النيابة العامة من خلال مؤسسة قاضي تطبيق العقوبات:

لم يكن قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 يتضمن أي مقتضيات تهم قاضي تطبيق العقوبة، فقد كانت صلة القضاء بالمحكوم عليهم تنتهي بمجرد صدور الحكم، ليصبح تنفيذه بيد جهاز إداري تحت اشراف النيابة العامة.

و هكذا فإن مؤسسة قاضي تطبيق العقوبات التي جاء بها القانون الجديد، جاءت قصد إضفاء الصبغة القضائية على تنفيذ العقوبات، و جعلها تحت المراقبة حفاظا على حريات الأفراد. و هي مؤسسة مقتبسة من القانون الفرنسي الذي تتمتع فيه بأهمية خاصة، و تتوفر على إمكانيات مادية و بشرية تجعلها قادرة على تحقيق الأهداف المتوخاة منها خصوصا و أن لها دور تقريري، على خلاف ما هو عليه الأمر بالمغرب حيث أن دورها اقتراحي فقط كما يظهر من خلال الصلاحيات الآتية:

–  زيارة المؤسسات السجنية مرة كل شهر على الأقل.

–  تتبع مدى تطبيق القانون المتعلق بتنظيم المؤسسات السجنية و تسييرها فيما يتعلق بقانونية الاعتقال و حقوق السجناء و مراقبة سلامة إجراءات التأديب.

–       تتبع وضعية تنفيذ العقوبات المحكوم بها من طرف المحاكم و مسك بطاقات خاصة بالسجناء.

–       الاطلاع على سجلات الاعتقال.

–       تقديم مقترحات حول الافراج المقيد بشروط و العفو.

–       التأكد من سلامة الإجراءات المتعلقة بالإكراه البدني.

يتضح اذن من خلال هذه الصلاحيات ان السلطات التي كانت تتمتع بها النيابة العامة و تباشرها بصفة منفردة دون مراقبة من آية جهة، أصبحت الآن تمارسها تحت رقابة قاضي تطبيق العقوبة.

و هكذا أصبح هذا الأخير يراقب سجلات الاعتقال الاحتياطي للتأكد من سلامة الإجراءات، و مدى احترامها للمقتضيات القانونية تحت طائلة الأمر برفع حالة الاعتقال بمقتضى امر يصدره القاضي يبين من خلاله العيوب و الإخلالات القانونية التي شابت الأمر بالإيداع في السجن أو الأمر بالاعتقال الاحتياطي.

كما أن قاضي تطبيق العقوبة يتأكد من مدى تطبيق القانون المتعلق بتنظيم المؤسسات السجنية و وضعية السجناء.

و يبرز دور قاضي تطبيق العقوبة أكثر فيما يتعلق بمسطرة الإكراه البدني، حيث أنه و استنادا الى مقتضيات المادة 640 من قانون المسطرة الجنائية، لا يمكن تطبيق الإكراه البدني الا بعد موافقة قاضي تطبيق العقوبات الذي يتأكد من توافر الشروط المطلوبة بمقتضى المادة المذكورة. و أن أي إجراء يباشر بشأن الإكراه البدني دون موافقة قاضي تطبيق العقوبة يعتبر لاغيا و عديم الأثر، و يترتب عليه كإجراء فوري بطلان الإجراءات و رفع حالة الاعتقال على المكره.

خاتمـــــــــــــة:

لاشك أن الدور الخطير الذي تضطلع به النيابة العامة كممثلة للحق العام في احياء دعائم دولة الحق و القانون، و نشر أسس الاستقرار الاجتماعي، اذا كان يفرض ان تتمتع بعناصر الاستقلالية و الموضوعية و النزاهة كمعايير تتأسس عليها العدالة بمفهومها الشامل، وهو ما يستدعي اعادة النظر في عضوية الارتباط بين النيابة العامة و السلطة التنفيذية المتمثلة في وزير العدل، فإنه بالمقابل لا تعارض بين أن تتمتع النيابة العامة بهذا الاستقلال و بين خضوعها لرقابة القضاء، خصوصا عندما يتعلق الأمر بسلطات و آليات لمكافحة الجريمة الخطيرة، يمكن أن يترتب على ممارستها مس خطير بحقوق و حريات الأفراد الموكولة الى القضاء وحده حق التصرف فيها و الحد من ممارستها.

 

مشاركة