بقلم عزيز بنحريميدة
في كل مرة يُزجّ فيها باسم ابن أو ابنة عائلة معروفة في ملف جنحي أو جنائي، تعود إلى الواجهة عبارة جاهزة وساخرة: “أولاد الفشوش”. هذه التسمية، التي صارت تهمة قائمة بذاتها، تُطلق على أبناء الأثرياء وكأنهم خارجون من سياق المجتمع، وكأن خطأهم لا يُغتفر لمجرد أنهم وُلدوا في بيئة ميسورة. الحقيقة أن هناك ما يشبه الإدانة المسبقة، لا على أساس الفعل الجرمي المرتكب، بل على أساس الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفاعل.
الظاهرة تطرح أكثر من سؤال. هل نحن أمام فئة منحرفة فعلاً؟ أم أننا أمام تحامل جماعي تجاه فئة تُتهم بالترف حين تخطئ، وتُدان بثروة آبائها لا بأفعالها؟ الواقع أن العديد من الأفعال التي يقترفها من نُسميهم “أولاد الفشوش” لا تختلف في طبيعتها أو شدتها عن أفعال تُرتكب يوميًا من طرف فئات مختلفة من المجتمع. غير أن وقعها الإعلامي والاجتماعي يكون مضاعفًا. فحين يخطئ ابن سائق أجرة، يُنظر إليه كفرد مسؤول عن فعله. أما حين يخطئ ابن مسؤول أو ثري، يُختزل الأمر في “الفساد الطبقي”، وكأن الفعل ليس زلة شخص، بل خيانة طبقية جماعية.
وسائل الإعلام، كما منصات التواصل الاجتماعي، تسهم في تضخيم هذه الصورة. يتم تداول الأسماء والصور، وتُروى التفاصيل دون تحفظ، وتُفترض النية والسلوك. وقد تتحول حادثة بسيطة إلى “قضية رأي عام”، لمجرد أن المتهم ينتمي إلى فئة اجتماعية معينة. تُكتب العناوين بإثارة، ويُرسم سيناريو عام مليء بالتحقير والسخرية والاتهامات المسبقة. ومع هذا الزخم، تضيع براءة الفعل الأول، وتحلّ محلها صورة نمطية جاهزة: متعجرف، مدلل، يظن أن المال يحميه.
الأكثر من ذلك، أن حتى أتعاب الدفاع في مثل هذه القضايا تُصبح موضوع نقاش. يُبالغ فيها أحيانًا، لا لاعتبارات قانونية أو تقنية، بل لأن الملف يُعتبر “مربحًا” من حيث رمزيته. فالمحامي لا يدافع عن شخص فقط، بل عن “اسم”، وغالبًا ما تُحسب عليه كل كلمة أمام الرأي العام، فيُطالب بأداءٍ لا يُغضب الناس، بدل أداء قانوني صرف. في المقابل، تلجأ بعض الجهات إلى التشدد في الإجراءات والأحكام، لا بناءً على خطورة الفعل، بل لتفادي الضغط المجتمعي، وإثبات استقلال القضاء عن التأثيرات الاجتماعية.
ومن بين المفارقات اللافتة، أن المجتمع نفسه الذي يُدين هؤلاء الأبناء عند كل خطأ، هو ذاته الذي يسعى لتوفير الامتيازات نفسها لأبنائه، إن توفرت له الإمكانات. ما يدل على أن الإدانة أحيانًا لا تستبطن رفضًا حقيقيًا للامتياز، بقدر ما تعكس رفضًا لاحتكاره. إنها عدالة شعبية تشتغل بمنطق مزدوج، تُدين أحدهم لأنه يملك ما لا يملكه الآخرون، لا لأنه أخطأ أكثر.
المثير في هذه الظاهرة أيضًا، هو أن القضاء، الذي يُفترض فيه أن يكون محايدًا، يجد نفسه أحيانًا وسط عاصفة من التأويلات، فيضطر إلى تشديد العقوبات أو الإجراءات لتأكيد نزاهته. وهنا تتحول الثروة من عامل يُظن أنه يخفف، إلى ظرف مشدد غير مكتوب. وكأن الغنى نفسه صار تهمة يجب أن تُكفّر بعقوبة مضاعفة.
فالعدالة لا تُقاس بالخلفية الاجتماعية للمتهم، بل بالفعل والقانون. وإذا كانت كل فئات المجتمع تخطئ، فلا ينبغي أن تكون أخطاء أبناء الأثرياء وحدها هي التي تُذاع وتُضخم وتُدان على الملأ. الإنصاف لا يعني التغاضي، بل يعني التوازن. والعدل لا يُبنى على التحامل، بل على المساواة الحقيقية، لا الانفعالية