كلمة مولاي الحسن الداكي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة في افتتاح اليومين الدراسيين حول العقوبات البديلة المنظمة من طرف رئاسة النيابة العامة بشراكة مع مجلس أروبا وبتنسيق وتعاون مع المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج
لي شرف كبير أن أفتتح أشغال هذا اللقاء الذي تنظمه رئاسة النيابة العامة بشراكة مع مجلس أوروبا وبتنسيق وتعاون مع المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من أجل تدارس مقتضيات القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة وتحليل مقتضياته وبسط سبل تنزيله إن على المستوى القضائي من خلال الدور الذي أناطه القانون بقضاة الأحكام وقضاة تطبيق العقوبة وقضاة النيابة العامة أو على مستوى التدبير الإداري في الشق المتعلق بتتبع تنفيذ هذه العقوبات والتي تضطلع فيها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج بأدوار جد هامة أو من خلال باقي المؤسسات الشريكة الأخرى التي ستساهم بدورها في تنزيل تنفيذ بعض العقوبات البديلة من قبيل توفير الفضاءات المناسبة لتنفيذ عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة أو بعض التدابير التأهيلية أو العلاجية…
وبهذه المناسبة أود أن أجدد الشكر الموصول للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على تفضله بالحضور وإلقاء كلمة بالجلسة الافتتاحية وعلى دعمه المستمر لمبادرات رئاسة النيابة العامة، وكذا على ما يوليه من رعاية واهتمام بالغين لتكوين السادة القضاة وتعزيز قدراتهم المهنية كلما استجد إشكال أو مقتضى تشريعي، كما يعتبر هذا اللقاء استمرارا لسلسة من الدورات التكوينية التي سبق تنظيمها حول نفس الموضوع حيث بادر السيد الرئيس المنتدب مشكورا يوم 30 أبريل 2025 إلى إعطاء انطلاق سلسلة الدورات التكوينية التي سيستفيد منها القضاة بمختلف جهات المملكة ضمانا لحسن تطبيق مقتضيات هذا القانون.
كما أود بنفس المناسبة أن أتقدم بعبارات الشكر والامتنان للسيد وزير العدل على حضوره وتفضله بإلقاء كلمة خلال هذه الجلسة الافتتاحية وكذا على كافة المبادرات التي يقوم بها خدمة للعدالة وعلى مبادراته التشريعية التي يرجع له فيها الفضل في إخراج هذا القانون من ضمنها إلى حيز الوجود والدفاع عنه باستماتة، والشكر موصول أيضا للسيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الادماج على حسن التنسيق والتعاون البناء بين مؤسستينا.
كما اود أن أشكر السيدة رئيسة مكتب مجلس أوروبا والسيد ممثل الاتحاد الأوروبي على تعاونهما البناء ودعمهما المتواصل لمبادرات رئاسة النيابة العامة في مجال التكوين وتعزيز قدرات الفاعلين في حقل العدالة الجنائية وإنفاذ القانون. كما لا تفوتني الفرصة لأتقدم بالشكر الجزيل للسادة الخبراء الذين يحضرون معنا أشغال هذين اليومين الدراسيين من رومانيا وبلجيكا وإسبانيا لإطلاعنا على التجارب المقارنة في هذا المجال.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن تنظيم هذين اليومين الدراسيين ونحن على أبواب تنزيل القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة في أفق شهر غشت يكتسي أهمية بالغة بالنظر لراهنية موضوع العقوبات البديلة في السياسة الجنائية والعقابية المعاصرة على المستوى الوطني وكذا الدولي، حيث تُشكل تغييرا جوهريا في النظام العقابي التقليدي بالنظر لمحاسنها وآثارها الإيجابية في تيسير إعادة الاندماج الاجتماعي والمهني للأشخاص المحكوم عليهم وقيمة مضافة للسياسات العقابية التي سبق لدول أخرى أن اعتمدتها بالنظر لمزاياها الإيجابية المتعددة، ونعتقد بأن هذين اليومين الدراسيين وما سيتخللهما من نقاشات واقتراحات ستشكل لا محالة خارطة طريق موجهة من أجل ضمان التنفيذ الأمثل لمقتضيات هذا القانون الجديد.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
يعتبر موضوع العقوبات البديلة من بين المواضيع التي حظيت باهتمام بالغ خلال الحوار الوطني حول اصلاح منظومة العدالة من منطلق ضرورة مواكبة وتطوير السياسة الجنائية ببلادنا تماشيا مع التحولات التي تعرفها المنظومة العقابية على مستوى العالم وذلك في اتجاه تنويع رد الفعل العقابي على الجريمة من خلال إقرار عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية، وهو الأمر الذي أكد عليه جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بتاريخ 20 غشت 2009 بمناسبة ذكرى 56 لثورة الملك والشعب حيث قال جلالته ما يلي: ” وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية ، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية .
وبموازاة ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة.” انتهى النطق الملكي السامي.
ولقد شكلت هذه التوجيهات الملكية السامية مرتكزا جوهريا تمت على أساسه بلورة هذه التصورات في إطار التشريع الحالي المنظم للعقوبات البديلة والذي يرجع فيه الفضل للسيد وزير العدل وللحكومة وللسلطة التشريعية في إخراجه إلى حيز الوجود لنتدارس اليوم السُبل المثلى لتنزيله ، والذي يعد مطمحا اجتماعيا وحقوقيا يُجسد تطور مفهوم العقوبة من مجرد وسيلة للردع والشجب إلى وسيلة للإصلاح والتهذيب وضمان بقاء المحكوم عليه داخل وسطه الاجتماعي وممارسته لحياته العادية اقتصاديا واجتماعيا وفرصة لإعادة إدماج المحكوم عليهم في المجتمع، لا سيما في ظل ما أثبتته الدراسات والتقارير الوطنية والدولية ذات الصلة بالمجال العقابي من ضعف نجاعة العقوبة السالبة للحرية ــــ سيما القصيرة المدة منها ـــــ في تحسين مؤشرات الأمن والسكينة العامة. ولما لها من آثار وخيمة اجتماعيا واقتصاديا، زيادة على السلبيات المرتبطة بتفاقم مشكل الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية، والذي أضحى عائقا يؤرق السياسات العمومية بصفة عامة، والمؤسسات القائمة على تنفيذ النظم العقابية بصفة خاصة.
ولقد جاء القانون المذكور في هذا الإطار بخيارات عقابية جديدة بديلة عن العقوبات السالبة للحرية، حيث أتاح الحكم بها في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها خمس سنوات حبسا نافذا، وحددها في أربعة أصناف هي: العمل لأجل المنفعة العامة، والمراقبة الالكترونية، وتقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، والغرامة اليومية.
ويضع هذا القانون تصورا جديدا لمعالجة القضايا التي يُحكم فيها بالعقوبات الحبسية النافذة طبقا لما هو منصوص عليه ضمن مقتضياته، حيث خوّل للقضاء إمكانية استبدال هذه الأخيرة بإحدى التدابير المشار إليها أعلاه، ما يضمن بقاء المحكوم عليه في وسطه الطبيعي وتلافي سلبيات اعتقاله، كما يفسح المجال لتيسير إمكانية إصلاحه سلوكيا وضمان استمرار أداء دوره اقتصاديا واجتماعيا بالنظر للتتبع الدقيق الذي تخضع له العقوبات البديلة سواء من طرف السلطات القضائية أو الإدارية الموكول لها قانونا تتبع تنفيذ العقوبات البديلة.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
لقد أسند القانون رقم 43.22 للنيابة العامة صلاحيات متعددة تمارسها بمناسبة تطبيق أحكامه، حيث خولها إمكانية تقديم ملتمسات للجهات القضائية المحددة ضمن مقتضياته من أجل استبدال العقوبة الحبسية المحكوم بها بعقوبة بديلة أو أكثر. كما عهد إليها بإحالة المقرر القاضي بالعقوبة البديلة بعد اكتسابه لقوة الشيء المقضي به إلى قاضي تطبيق العقوبات ومواكبة مختلف مراحل تنفيذ إجراءات هذه العقوبة منذ الشروع فيها إلى تمام تنفيذها. وهو الأمر الذي يقتضي من قضاة النيابة العامة الانخراط الكامل في التفعيل الأمثل لمقتضياته والحرص على التطبيق السليم والعادل لمضامينه وفق ما هو معهود فيهم من جدية وتفانٍ والعمل على تنفيذ القرارات القضائية المتعلقة بالعقوبات البديلة بالفورية اللازمة مع ما يترتب عن ذلك من تحمل المسؤولية التي أناطها القانون بهم في هذا الإطار بالنظر لارتباط تنفيذ التدابير البديلة بحرية الأشخاص.
وفي هذا الإطار، عملت رئاسة النيابة العامة على توجيه رسالة دورية تحت عدد 18/2024 وتاريخ 11 دجنبر 2024 تحث فيها قضاة النيابة العامة على الانخراط الجاد لإنجاح تفعيل قانون العقوبات البديلة. كما ساهمت رئاسة النيابة العامة أيضا بجدية في اجتماعات اللجن الموضوعاتية الأربعة المحدثة تنزيلا لمخرجات الاجتماع رفيع المستوى الذي ترأسه السيد رئيس الحكومة لوضع مخطط تنزيل القانون رقم 43.22، والتي عهد إليها العمل على صياغة النصوص التنظيمية المتعلقة بهذا القانون، وإعداد دليل استرشادي عملي لتنزيل قضائي للعقوبات البديلة، ووضع تصور شامل لكيفية تنزيل العقوبات البديلة المتمثلة في عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة من طرف مختلف القطاعات المعنية بهذه العقوبة، وكذا تدارس الإمكانات التقنية والبشرية والمالية للتتبع والاشراف على تنفيذ العقوبات البديلة بصفة عامة وعقوبة المراقبة الالكترونية بصفة خاصة.
وارتباطا بهذا الموضوع، فإنني أود التأكيد على أن رئاسة النيابة العامة ستتخذ كل ما يلزم لإنجاح هذا الورش الوطني الهام ولن تدخر جهدا للمساهمة وفق استراتيجية تشاركية مندمجة مع باقي الفاعلين لا سيما المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من أجل التنزيل العملي لأحكام هذا القانون وتعزيز قدرات الفاعلين المعنيين بتطبيقه سواء على الصعيد الجهوي أو المحلي مع تتبع ومراقبة مدى إعمال هذه العقوبات البديلة لبلوغ الغايات التي شُرعت من أجلها.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
تُعد أشغال هذين اليومين الدراسيين فرصة لتبادل الأفكار ووجهات النظر لتنزيل أحكام القانون رقم 43.22، ومناسبةً للوقوف على مختلف ما يمكن أن يستشعره الساهرون على إنفاذه من إشكالات بغية إيجاد الحلول المناسبة لها بشكل ينسجم مع إرادة المشرع ويحقق الغاية المرجوة منه والتي تهدف إلى إعادة النظر في الآليات الكفيلة بإعادة إدماج المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية وضمان انخراطهم الشخصي والذاتي في هذا الإدماج وإبقائهم داخل وسطهم الاجتماعي والاقتصادي. وبهذه المناسبة أدعو السادة المشاركين في هذين اليومين الدراسيين إلى اغتنام الفرصة للاستفادة من الخبرة المشهود بها للمؤطرين والمتدخلين والاطلاع على التجارب الأوروبية في تدبير هذا النوع الجديد من العقوبات سيما من حيث المعايير المعتمدة للحكم بها وكيفية سير عمليتي المراقبة والاشراف على تنفيذها والاطلاع على الممارسات الفضلى المتبعة لحل مختلف الإشكالات والصعوبات التي قد تطرح خلال سير عملية التنفيذ، ومؤشرات القياس الممكن اعتمادها لتقييم مدى نجاعة العقوبات البديلة من أجل استشراف تنزيل مُوفق لها ببلادنا.
وفي هذا الإطار أود أن أشير إلى أن رئاسة النيابة العامة تشتغل حاليا على إعداد دليل عملي حول كيفية تطبيق العقوبات البديلة سيتم إصداره في المنظور القريب بعد صدور المرسوم التطبيقي للقانون المذكور سيتم تعميمه على قضاة النيابة العامة لتحقيق الغاية المرجوة منه ، كما ستسهر هذه الرئاسة أيضا على التنسيق مع باقي الشركاء لتنظيم دورات تدريبية لفائدة الأشخاص المكلفين بتطبيق أحكامه، بالإضافة إلى العمل على عقد لقاءات مع السادة المسؤولين القضائيين بالنيابات العامة كلما اقتضت الضرورة ذلك من أجل تذليل الصعاب التي قد تعيق التطبيق الأمثل لأحكامه.
وفي الختام، أجدد الشكر الجزيل للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، السيد وزير العدل، السيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، السيد وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات ، السادة ممثلي الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا على تشريفهم لنا بالحضور في هذا اللقاء ، والشكر موصول لممثلي وسائل الإعلام الحاضرين معنا لتغطية هذا اللقاء والشكر موصول أيضا لكل من سهر على تنظيم هذا اللقاء العلمي الهام متمنيا كامل التوفيق لأشغاله والاهتداء إلى مقترحات وتوصيات مثمرة تُجسد روح الانخراط الجدي والفعال لمختلف المتدخلين من أجل تبسيط فهم مقتضيات هذا القانون وإنجاح تطبيق أحكامه الذي سيكون له بلا شك الأثر الإيجابي في تطوير مستوى العدالة الجنائية والسياسة العقابية ببلادنا تفعيلا لتوصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة الذي وافق على مضامينه جلالة الملك محمد السادس دام له النصر و التمكين.
وفقنا الله لما فيه خير العدالة ببلادنا حثى يتأتى لنا القيام بكل ما يخدم الوطن والمواطن تحت القيادة الرشيدة لمولانا صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بما حفظ به الذكر الحكيم، وأقر عينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بصنوه السعيد الأمير مولاي رشيد وكافة أفراد أسرته الشريفة، إنه سميع مجيب الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


