ان الملابسات التاريخية التي سبقت سنة 1903 والضغط الذي مورس بعنف وهمجية على الفلاحين كان فتيلا ساخنا لانفجار ثورات شعبية ضد القواد وأعوان المخزن وضد المحميين والمخالطين والسماسرة وعيون الأجانب والمجذمة ؛ كانت ثورات عفوية قبل أن تنتظم، ولم تكن “سيبة” كما حاول ويحاول العديد أن يتداولها ويصفها بها، حيث هاجم الفلاحون القصبات رمز الاستبداد واستعادوا منها ما سرق وأخذ منهم غصبا… ولأنها ثورة شعبية كان لها زعماء انتخبتهم القبائل وفرضوا بالاتفاق والتشاور والتداول نظاما على الجميع، حيث تتم المعاقبة الصارمة ضد كل من يرتكب جرما أو سرقة أثناء المقاومة.
إنها معالم المقاومة الوطنية الحقيقية والتصدي الشعبي للانحراف، والتي أفرزت زعماء من طينة القرشي بن الرغاي، الأحمر بن منصور، الحاج محمد، الشيخ البوعزاوي والعشرات ممن سيكون لهم دور بارز في السنوات المحرقة الآتية. معالم انتفاضة يحركها عاملان : الديني والوطني برماة وفرسان وفقهاء وفلاحين أميين.
لقد كانت القروض التي تسلمها المخزن المغربي من فرنسا سنة 1904 قد أعطت للفرنسيين حق الإشراف على الجمارك واحتكار المال، كما كان مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 الضربة الموجعة لاستقرار المغرب، لأنه حصل بالتعبير المشهور على قليل من المال وكثير من التدخل، مما خدش مشاعر المغاربة بالشاوية خصوصا مع احتلال وجدة (1906)، ودفع بالمجاهدين في الشاوية وعلى رأسهم الشيخ المرابط البوعزاوي إلى تحريض الفلاحين ودعوتهم للجهاد، وهو ما كان يدعو إليه الشيخ ماء العينين في جولته الموسعة الداعية إلى الجهاد ضد الكفار.
وقد كانت الأشغال التي افتتحها المراقبون الفرنسيون باسم “الكومبانية المغربية” في ميناء الدار البيضاء بمد خط حديدي وقاطرة لجلب الحجارة وانتهاك ونبش حرمة المقبرة الإسلامية المجاورة، بالإضافة إلى جلوس المراقب الفرنسي بالديوانة… هي آخر نقطة في كأس بلغ فيضه، الشيء الذي تختزله التواريخ التالية:
– الأحد 28 يوليوز 1907 : قدوم وفد عن بعض قبائل الشاوية إلى الدار البيضاء للاتصال بقائدها السيد بوبكر بن بوزيد مطالبين إياه على وجه الاستعجال بطرد المراقبين الفرنسيين من الديوانة، والإيقاف الفوري لأشغال ميناء الدار البيضاء وتخريب السكة الحديدية.
وقد قيل بأنه إنه ماطلهم ثم لم يستقبلهم، وقيل إنه التقاهم وقال لهم أمهلوني إلى يوم 30 يوليوز متحيرا في أمره ؛ أو قال لهم أن الأمر برمته من اختصاص المخزن.
الاثنين 29 يوليوز 1907 : اجتماعات داخل القبائل، واستمرار الترقب والانتظار مع التأهب ورص الصفوف والاستعداد من خلال حملات التنظيم والإخبار.
-الثلاثاء 30 يوليوز 1907 : قائد مدينة الدار البيضاء بوبكر بن بوزيد يستدعي عددا من قناصل الدول الأجنبية والشخصيات السياسية والاقتصادية والإدارية ليتشاور في الأمور المستجدة، لكن قنصل فرنسا يوبخه مهددا إياه بأسلوب جارح.
في الساعة 11.00 صباحا : محمد بن العربي البراح ينادي بمقاطعة الأجانب، ويهدد من لا يمتثل للإجماع الشعبي ، ويحذر الفرنسيين داعيا إياهم بمغادرة البلاد.
عشية نفس اليوم تنطلق حركة الانتفاضة والاحتجاج بقتل تسعة عمال أجانب، وتخريب السكة الحديدية والقاطرة، وطرد المراقب الفرنسي.
وفي نفس اليوم، اجتماع عدد من الزعماء الثوار في أولاد زيان، مديونة، المذاكرة، المزامزة، أولاد سعيد، أولاد سيدي بندود، أولاد بوزيري… في تجمعات خطابية هامة، بعدها دخل زعماء الانتفاضة على خيولهم وسيطروا على الأوضاع بالدار البيضاء حيث أجلسوا مراقبا مغربيا بباب الديوانة لاستخلاص واجب الخراج من التجار اليهود.
-الأربعاء 31 يوليوز 1907 : السيطرة على الأوضاع بالدار البيضاء من طرف الثوار، وانتشار الخبر بكل أطراف الشاوية التي تأهبت لأي مستجدات.
وفي هذا اليوم كتب الثوار رسالة وجهوها إلى مجموع القبائل بأسمائها لتنفيذ ما جاء فيها، وهذا نموذج منها:
تقول الرسالة :” الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، إخواننا قبيلة أولاد حريز كافة رعاكم الله والسلام عليكم وبركاته من خير مولانا نصره الله وبعد، فغير خاف عليكم أننا كنا تشوفنا لما ظهر وبان بثغر الدار البيضاء ومرساها من جهة بابور البر فيها، ونزول الروم بمرستها كذلك بعد أن ينصر الله أمرا مفعولا على يد بعض رجال الإسلام، وقتلوا أصحاب البابور تسعة، وفسد عمله كله وخرج الكافر منها الذي كان بالمرسة، وكذلك دائرة الفرنسيس كلها وتجمع من حضر من قبيلة الشاوية وحصل الرفود على الثغر المذكور وغير ذلك من الطرقات والصادر والوارد في قبيلة الشاوية كلها تعين أعلامكم لتكونوا على بال وتتلاقوا مع بعضكم البعض وتعلموا جيرانكم من إخواننا أولاد أبورزك بأن يكونوا ببال وتقدموا للجمع يوم الاثنين الآتية في الصبيح ليقع الرفود بين القبائل وتبرحوا في الأسواق وتكونوا على بال بحيث إذا ظهر شيء في البحر وتكونوا فيه يدا واحدة، ومن وقع شيء في أرضه يحرق دوائره وأن الشاوية وما أضيف إليها يد واحدة، به الأعلام، وعلى الأخوة السلام في 20 جمادى الثانية 1325 (31 يوليوز 1907).
أعيان قبيلة الشاوية كافة أمنهم الله. وتوجهوا بهذه إلى إخواننا أولاد أبوزرك.
الخميس 1 غشت 1907 : فرقة عسكرية تابعة للمولى الأمين تعزف الموسيقي لنائب القنصل الفرنسي وهو يصعد إلى البارجة الحربية غاليلي التي رست صبيحة هذا اليوم بميناء الدار البيضاء محملة بإنذار للمغاربة.
الاثنين 5 غشت 1907: الخامسة صباحا من صيف غشت الصاهد، 66 بحارا فرنسيا من القتلة دخلوا من باب المرسى الذي وجدوه مفتوحا بأمر من المولى الأمين.. ومع وضع أرجلهم على الأرض المغربية شرعوا في قتل كل من وجدوه في طريقهم سواء من مخازنية أو سكان عزل، فيما بدأت البارجة غاليلي وبعدها البارجة دي شايلا بقصف المدينة بقذائف المنيليت الاشتعالية والقنابل التي التهمت الأحياء الشعبية خصوصا حي التناكر وقتلت الساكنة التي كانت آمنة وعزلاء.واستمر القذف خلال يومي 6 و7 غشت مع احتدام الصراع وكثرة القتلى ودخول فرسان الشاوية للانتقام من الغزاة.
الأربعاء 7 غشت 1907 : البارجتان البحريتان تواصلان القصف الوحشي تمهيدا لنزول جيش الاحتلال بقيادة الجنرال درود رفقة 300 جندي، لكن فضيحة يوم سابع غشت كانت هي المؤامرة الثانية بعد باب المرسى، وتجلت في واقعة السور الجديد حيث احتمت أفواج مؤلفة من المغاربة العزل الفارين داخل السور الجديد في حماية وأمان المولى الأمين…. لكن الذي وقع أنهم احترقوا جميعهم بالغدر والدسيسة فماتوا شهداء انضافوا إلى من قتلوا في اليومين السابقين.
وإذا كان سكان الدار البيضاء،ديوان الشاوية، في تلك اللحظة لا يتجاوز ثلاثون ألف نسمة فإن ما بين 6000 و15000مواطن استشهدوا، وفر معظم المتبقين إلى النواحي، كما اعتقل العديد من الثوار والمجاهدين الذين حوكم بعضهم بالإعدام الفوري والبعض الآخر بالسجن ووضع ثوار آخرون في المعتقلات دون محاكمة ومن غير أن يعرف مصيرهم حتى الآن.
كل هذا زاد من غضب الفلاحين بدليل أن الجنرال الفرنسي ظل محاصرا في الدار البيضاء ومديونة لمدة ستة أشهر إلى أن تم تغييره بالجنرال داماد.
من يتذكرنا؟
إن الحصيلة التي سيحملها معه درود في شكل هزائم وخيبات بدأت تجلياتها في معارك شهد الأعداء أولا عبر تقارير المخبرين أو التقارير العسكرية أو الكتابات الصحفية في ذلك الوقت أنها بطولية أبانت عن قتالية لدى الفرسان المغاربة وقدرة خارقة في التكتيك الحربي والإقدام ليل نهار. ففي يوم عاشر وثامن عشر غشت أمام اندحار قواته أمام فرسان الشاوية بعث درود برسائل استنجاد يطالب فيها بالذخيرة لمعاقبة أهل بلاد الشاوية.
وفي غمرة المعارك سيوجه أهل الشاوية رسالة إلى عبد الحفيظ أخو السلطان عبد العزيز يحثونه فيها على إعلان الجهاد حفاظا على أعراض المسلمين وحريتهم وأملاكهم، الرسالة التي دونها الفقيهان السطاتيان البجاج وبن عزوز يوم حادي عشر غشت، وحملها إلى مراكش الزيراوي والعفيف سيكون الرد عليها خروج أول محلَّة حفيظية للجهاد يوم سادس عشر شتنبر بقيادة محمد ولد رشيد الفيلالي والتي ستخيم بسيدي عيسى قرب مديونة مقابل تحرك المحلَّة العزيزية بقيادة بن بوشتى البغدادي في أواخر أكتوبر وانهزامها بشكل فظيع .
كل هذه الهزائم التي مني بها الفرنسيون بأسلحتهم المتطورة وبثلاثين برقية أرسلتها الحكومة الفرنسية للجنرال تحثه فيها على التقدم بأية طريقة لاستكمال احتلال الشاوية وتقليم أظافر أهلها..لم ينفع في شئ ، فجاء عزل الجنرال الذي أسندت إليه مهمة قيادة الإنزال الفرنسي في ثالث غشت 1907 .
تسلم الجنرال داماد القيادة يوم خامس يناير 1908، وقد جاء لينفذ سياسة الاستعمار الفرنسي بأية وسيلة، فهو صاحب المنطاد الذي استعمله في عمليات التحرك والاستكشاف، وصاحب القتل بدون تمييز للأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين وحرق الأراضي وتسميم المواشي ومياه الأنهار والآبار… إنه محارب قذر.
وفي المعارك التي سيقودها، خصوصا يوم 15 يناير 1908 في معركة سطات المشهورة ستبرز بطولات المجاهدين الشهداء وعلى رأسهم القرشي بن الرغاي الذي سيستشهد في ذلك اليوم استشهاد الأبطال التاريخيين، بعدها معركة عين مكون (24 يناير) وهزيمة المعسكر الفرنسي أمام حركات المذاكرة بقيادة الأحمر بن منصور ومجموعة كبيرة من المجاهدين يقاتلون خلفه بشكل أشد ضراوة.
في تراجعه، قصد الجنرال دماد المزامزة/ سطات في معركتين فاصلتين الأولى بلقصابي (2 فبراير)، والثانية بسطات (6 فبراير) مارس كل عدوانيته من قتل وبطش وتخريب لكن معركة برابح والسدرة، ومعركة فخفاخة (16 – 17 – 18 و 29 فبراير 1908) لقنت المذاكرة بقيادة الأحمر بن منصور الليث الهصور مول العلام، دروسا أخرى للجنرال وقواته وهي تسقط وتتراجع وتفر مهزومة.
بعد ذلك جاءت مذابح داماد بمكارطو (8 مارس) وسيدي الغنيمي (15 مارس) ثم بإيحاء من الجنرال ليوطي شرع في إحداث ملحقات عسكرية لإنهاء المقاومة، فعرف أن أهل الشاوية لا يستسلمون بالسهولة التي كان يتخيلها وهو يتسلم القيادة يوم خامس يناير، ذلك أن 29 مارس 1908 بسيدي عسيلة، المذاكرة وقبائل أخرى داعمة سيسقطون اثنين من كبار قادة المعسكر الفرنسي وهما سلفستر وبوشرون.
كما كان أهل المزامزة وبجانبهم أولاد سعيد، أولاد سيدي بنداود، وأولاد بوزيري وقبائل أخرى بقيادة الشيخ البوعزاوي ومجاهدين أفذاذ يدافعون ضد التقدم الوحشي للفرنسيين في معركة سطات الثالثة ( 6 أبريل) وهي الفترة التي خابت فيها آمال رجالات الشاوية بعد انتظار طويل وتشويقي لمجيء محلة عبد الحْفيظ… هذا الأخير الذي رحل إلى فاس بحثا عن حل سلمي بعدما كانت خطاباته المتبادلة مع أهل الشاوية كلها أمل ودعوة إلى الجهاد والقتالية.
معارك الغابة (سيدي كامل، صخرة عبو، بريغيت، واد العطش) ومعركة بيرالورد منذ 11 ماي وخصوصا في الخامس عشر والسادس عشر منه هي آخر المعارك الكبرى في سلسلة ملحمة قوية أبانت عن مجاهدين كبار وشهداء يحملون قيما كبيرة وأحلاما أكبر.
من أكون؟
لماذا نسيت الكلام.. قليلا وحولت بصري إلى أصدقائي القدامي، أكتب تأويلات لجزء يسير من أفعالهم.. أسرد فقط الإشارة دون العبارة؛ وأنا أعرف عنهم تفاصيل حيواتهم الداخلية ، شساعة وجدانهم وبداهة التصور.
الفرس الذي تركه لي جدي مربوطا في السْمَارْ، مضغ الرسن وراح ولم تبق لي غير نفسي، فكل المعارك انتهت، فقط معركة النفس والقيم وحروب الإطاحة بكل ما هو جميل تكاد تنهي عملها.
الآن وجدت شيئا أتشبث به عند أجدادي وجداتي وأصدقائي الذي أحبهم أكثر من نفسي.. ووجدت شيئا أكتب عنه وأفخر به، يُقوِّمني وأمشي على هدْيه. ماذا سنترك نحن لأبنائنا وحفدتنا. بع