د. فارس يغمور : رئيس الوحدة القضائية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – المحكمة الدولية لتسوية المنازعات (إنكودر) – لندن، إنجلترا
تُعدّ العدالة الانتقالية من أبرز المفاهيم القانونية والسياسية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين مع صعود موجات التحوّل الديمقراطي وسقوط الأنظمة الاستبدادية. فهي ليست مجرّد إطار قانوني لمعالجة الانتهاكات الماضية، بل منظومة شاملة تهدف إلى تحقيق التوازن بين مطلب العدالة وضرورات السلم الأهلي والاستقرار السياسي (Teitel, 2000).
وفي المجتمعات الخارجة من النزاعات، تصبح المصالحة ضرورة سياسية واستراتيجية لا تقل أهمية عن العدالة ذاتها، إذ تسعى لتثبيت السلم عبر الاعتراف بالضحايا وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.
في مفهوم العدالة الانتقالية
يُقصد بالعدالة الانتقالية “مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تطبّقها الدول في سياقات الانتقال من الصراع أو الحكم السلطوي نحو الديمقراطية، بغية معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” (United Nations, 2010).
وتشمل هذه التدابير المساءلة الجنائية، لجان الحقيقة، جبر الضرر، والإصلاح المؤسسي.
وما يميزها عن العدالة التقليدية هو أنّها تسعى لتحقيق المصالحة الوطنية أكثر من الاقتصاص العقابي الصرف، فهي مشروع لبناء الثقة أكثر من كونها مجرد آلية للمحاسبة (Hayner, 2011).
إنّ العدالة الانتقالية في جوهرها عملية سياسية بقدر ما هي قانونية، تهدف إلى ترميم النسيج الاجتماعي وإعادة صياغة العقد الاجتماعي على أسس العدالة والمساواة والمواطنة.
المصالحة كخيار سياسي ضروري
أثبتت التجارب المقارنة أن المصالحة ليست نقيض العدالة، بل هي وجهها الآخر حين تتجذر في إرادة سياسية صادقة (Tutu, 1999). ففي جنوب إفريقيا مثلاً، مثّلت لجنة الحقيقة والمصالحة نموذجًا رائدًا في معالجة الانتهاكات من خلال الاعتراف العلني والصفح المشروط.
أما في رواندا، فقد تم الجمع بين العدالة الجنائية الدولية عبر المحكمة الخاصة، والعدالة المجتمعية من خلال محاكم “الغاتشاكا”، مما مكّن المجتمع من تجاوز إرث الإبادة بطريقة تراعي العدالة الجماعية (Clark, 2010).
لكن في العالم العربي، ما زالت العدالة الانتقالية تواجه عقبات بنيوية تتعلق بضعف الإرادة السياسية وتسييس ملفات العدالة واستخدامها أداةً للصراع السياسي، كما حدث في بعض التجارب بعد “الربيع العربي” (Sriram, 2017).
التحديات البنيوية في السياق العربي :
- ضعف استقلال القضاء وغياب الشفافية في إدارة ملفات العدالة.
- تسييس مؤسسات العدالة الانتقالية وتحويلها إلى أدوات للمحاسبة الانتقائية.
- غياب المشاركة المجتمعية والضحايا في تصميم وتنفيذ سياسات العدالة.
- غياب الإرادة التشريعية لتقنين العدالة الانتقالية ضمن الدساتير أو القوانين الأساسية.
هذه العوامل تجعل العدالة الانتقالية في العالم العربي عملية رمزية أكثر منها واقعية، وتؤكد الحاجة إلى نموذج عربي أصيل ينبع من الخصوصية الثقافية والقانونية للمجتمعات العربية، لا إلى استنساخ تجارب أجنبية (Aboueldahab, 2017).
نحو مقاربة عربية للعدالة والمصالحة
لعلّ التحدي الأكبر في بناء نموذج عربي للعدالة الانتقالية يكمن في تحقيق التوازن بين مقتضيات العدالة والسيادة الوطنية.
إنّ أي مقاربة عربية فعّالة يجب أن تقوم على:
تضمين العدالة الانتقالية في النصوص الدستورية كحق وواجب وطني.
إنشاء لجان وطنية مستقلة للحقيقة والمصالحة بإشراف قضائي ومشاركة مجتمعية واسعة.
اعتماد برامج جبر الضرر وإعادة التأهيل كجزء من العدالة التصالحية.
إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
إرساء ثقافة الذاكرة الجماعية عبر التعليم والإعلام لتثبيت قيم الاعتراف والمساءلة.
بهذه الأسس، تتحول العدالة الانتقالية من أداة ظرفية إلى مشروع حضاري لإعادة تأسيس الدولة العربية الحديثة على قاعدة احترام الحقوق والحريات وسيادة القانون.
العدالة والمصالحة بين الأخلاق والسياسة
تتجاوز العدالة الانتقالية البعد القانوني لتلامس البعد الأخلاقي والفلسفي في الوعي الجمعي للأمم. فالمصالحة ليست قرارًا سياسيًا فحسب، بل فعل أخلاقي يعيد الاعتبار للضحايا ويكرّس إنسانية المجتمع (Minow, 1998).
الاعتراف بالخطأ شرط للشفاء الجمعي، وجبر الضرر شرط للمصالحة الحقيقية. فالسلام القائم على إنكار الماضي هشّ، أما السلام المبني على الاعتراف والمساءلة فهو سلامٌ راسخ ومستدام.
تُظهر تجارب الشعوب أن العدالة الانتقالية ليست ترفًا فكريًا أو شعارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لبناء السلام واستعادة الشرعية الأخلاقية للدولة.
في العالم العربي، يُفترض أن تُدرج العدالة الانتقالية ضمن برامج الإصلاح السياسي والاجتماعي لا كاستجابة لضغوط خارجية، بل كحاجة داخلية لتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ ثقافة المواطنة.
فالمصالحة الحقيقية لا تنفصل عن العدالة، والعدالة لا تكتمل دون مصالحة.
وعند هذه النقطة الدقيقة، تصبح المصالحة ضرورة سياسية وشرطًا للاستقرار الدائم، لا مجرد خيارٍ ظرفي تمليه الأزمات.
المراجع
- Aboueldahab, N. (2017). Transitional justice and the Arab Spring: Resistance and co-optation. Routledge.
- Clark, P. (2010). The Gacaca Courts, Post-Genocide Justice and Reconciliation in Rwanda: Justice without Lawyers. Cambridge University Press.
- Hayner, P. B. (2011). Unspeakable Truths: Transitional Justice and the Challenge of Truth Commissions (2nd ed.). Routledge.
- Minow, M. (1998). Between Vengeance and Forgiveness: Facing History after Genocide and Mass Violence. Beacon Press.
- Sriram, C. L. (2017). Transitional Justice in the Arab World: Law, Politics and the Struggle for Accountability. Oxford University Press.
- Teitel, R. G. (2000). Transitional Justice. Oxford University Press.
- United Nations. (2010). Guidance Note of the Secretary-General: United Nations Approach to Transitional Justice. United Nations, New York.
- Tutu, D. (1999). No Future Without Forgiveness. Doubleday.

