يقلم:حكيم السعودي
منذ سنة 2019، حين تولّيت رئاسة جمعية شباب المواطنة المغربية، لم يكن في الحسبان أن تتحوّل هذه التجربة إلى مشروع وطني واسع بفروع تمتد عبر جهات المغرب. البداية كانت متواضعة، أقرب إلى رغبة في الحفاظ على التواصل بين الأصدقاء أكثر من كونها مخططاً للتوسع أو مشروعاً استراتيجياً. لكن سرعان ما قادتني التجربة، عبر محطات متشابكة من العمل الميداني والتأطير التربوي، إلى إدراك أن الجمعية يمكن أن تشكل رافعة حقيقية للشباب إذا ما أُحسن تدبيرها، وإذا ما تحمّل الجميع نصيبه من المسؤولية. لقد شاركت في السنة نفسها 2019 في تأطير تدريبين: الأول تابع للجامعة الجهوية للتخييم بالدار البيضاء والثاني لجمعية وطنية بمدينة بنسليمان بصفتي منسقاً بيداغوجياً. لم يكن الهدف مجرد المشاركة الرمزية بل السعي لتمكين أكبر عدد من شباب الجمعية من الولوج إلى التكوين والاستفادة من التجارب. في تلك المحطة التقيت شخصيات مثل حافيظ وأشرف وكان لهما دور في دفعنا نحو تأسيس الفروع خصوصاً وأن المكتب المركزي للجمعية كان يضم أطرًا حاصلة على دبلومات عليا في مجال التكوين والتأطير. ومن هنا انطلقت مسيرة التوسع بدعم من عناصر فاعلة كحسن بودياب وآخرين.
نظمنا أول مخيم صيفي لنا بسيدي رحال سنة 2019، تحت اسم “جمعية شباب القوات المواطنة المغربية”، بعد أن كان الاسم السابق “شبيبة القوات العمالية المغربية” من تاطير رشيدة الوردي. غير أن البدايات لم تخلُ من تعثرات؛ إذ برزت سلوكات سلبية من بعض المدربين الذين تعاملوا مع المشروع بعقلية استغلالية وهو ما انعكس على الأداء العام. ثم جاء وباء كورونا ليوقف المخيمات لكنه لم يوقف دينامية الجمعية؛ بل جعلنا نتجه نحو أنشطة صحية وتوعوية لنثبت حضورنا في الفضاء العمومي رغم كل الظروف. ومع استئناف الأنشطة وجدنا أنفسنا أمام جمعية وطنية متعددة الفروع إذ وصلنا إلى 61 فرعاً عبر عشر جهات. لكن هذا الاتساع لم يمر دون كلفة؛ فالبعض استغل الفرصة لبث البلبلة وتحويل الخلافات الطبيعية إلى معاول هدم. لقد تعرّضنا لنقد لاذع ليس لأنه بناء أو نابع من غيرة حقيقية بل لأنه كان محركه الأهواء والنيات السيئة. وقد اخترنا وقتها خيار التهميش والإقصاء من المخيمات عوض الدخول في دوامة صراعات شخصية. غير أن التحديات لم تكن خارجية فقط؛ ففي داخل المكتب المركزي نفسه ظهر تقاعس بعض الأعضاء. هناك من يحضر دون مذكرة أو قلم وكأن حضوره شكلي. هناك من أُسندت له لجان لكنه ترك الحبل على الغارب. هناك من لا يميز بين دور الفرع ودور المركزية بل يستغل منصبه لتكريس شخصنة السلطة بل إن بعضهم يلجأ إلى نشر البلبلة للتغطية على ضعفه. هذه الممارسات لم تكن سوى مظاهر سطحية لمشاكل أعمق: غياب ثقافة المسؤولية المشتركة والخلط بين النقد الذاتي المشروع وبين الطعن في الأعراض أو حتى التحرش في بعض المناسبات خاصة المخيمات حيث ينكشف ضعف البعض في احترام القوانين المتعلقة بالسن أو مستوى التكوين.
إن ما نعيشه يعكس ما تحدّث عنه نيكولو ماكيافيلي في “الأمير” حين أكد أن إدارة الجماعة تتطلب توازناً دقيقاً بين الحزم والمرونة. فلا يمكن لمؤسسة أن تستمر إذا لم توضع حدود واضحة، وإذا لم يتحمل كل فرد مسؤوليته بجدية. كذلك يستحضرني هنا شوبنهاور حين قال إن أغلب الناس لا يبحثون عن الحقيقة بل عن تأكيد أوهامهم؛ كثيرون داخل الجمعية بدل أن يساهموا في البناء انشغلوا بتوجيه أصابع الاتهام والتذرع بالمحاسبة وكأنهم أبرياء من كل تقصير. أما دوستويفسكي الذي حفر في أعماق النفس البشرية فقد نبّه إلى أن الشر في جوهره ليس قوة عظمى بل ضعف متنكّر في ثوب سلطة. وهذا ما نراه عند بعض المسؤولين الصغار الذين يطالبون بمواقع لا يستحقونها أو يتولون مهام أكبر من تكوينهم فيكشفون عن هشاشتهم ويعرّضون العمل الجمعوي للاهتزاز. رغم كل ذلك تظل الجمعية في خط تصاعدي. قوتها ليست في خلوها من الأخطاء بل في قدرتها على التعلم منها. لدينا أعضاء ونساء ورجال، شباب وشابات، أطر وأعضاء شرفيون يؤمنون أن العمل الجمعوي ليس نزوة ولا سلعة بل تضحية. هناك من ينفق من ماله الخاص على أنشطة الجمعية وهناك من يكرّس وقته لأجل الشباب. وهؤلاء هم رصيدنا الحقيقي. لكن حان الوقت لنضع النقاط على الحروف، لا يمكن أن نستمر في سياسة التغاضي والتسامح إلى ما لا نهاية. فكما يقول الفلاسفة الحرية مسؤولية قبل أن تكون امتيازاً. لذلك فإن التقييم قادم والمحاسبة قادمة ليس فقط للمكتب المركزي بل لكل الفروع. كل فرع سيكون مطالباً بتقديم تقرير أدبي ومالي وإبراز حصيلته من الأنشطة. هذا ليس خياراً بل واجباً فالقانون الأساسي والنظام الداخلي للجمعية يلزماننا جميعاً بالشفافية.
خذوا مثال الجامعة الصيفية للشباب التي نعدّ لها هذه الأيام: المراسلات مع الوزارة، إعداد المشروع البيداغوجي، الاتصالات المتعددة… الأمر أشبه بالتحضير لزفاف يحتاج إلى تفاصيل دقيقة وصبر طويل. ورغم ذلك ننجح بفضل الجهد الجماعي لا بفضل الكلام الفارغ أو الاتهامات المتبادلة. إن الجمعية اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نرتقي إلى مستوى التحديات فنؤسس لثقافة المسؤولية المشتركة، الديمقراطية الداخلية والشفافية في التدبير؛ وإما أن نسقط في فخاخ الصراعات الصغيرة التي لا تخدم سوى أعداء الفعل الجمعوي. وكما قال ماكيافيلي: من يريد أن يُصلح جماعة فليبدأ أولاً بتنظيمها وضبطها وإلا فإنها ستنهار من الداخل. لقد حان الوقت للجهر بالحقيقة: من يعمل ومن لا يعمل؟ من يضحّي ومن يثرثر؟ من يحترم الأعضاء ومن يتطاول على أعراضهم؟ من يبني ومن يكتفي بالتحرش والهدم؟ هذه الأسئلة ليست للتشهير بل للتطهير. فلا إصلاح دون وضوح ولا مستقبل دون محاسبة.
الجمعية اليوم أكبر من الأشخاص وأوسع من الطموحات الفردية. إنها أفق مفتوح للشباب المغربي، مدرسة للمواطنة ومختبر للديمقراطية. مسؤوليتنا أن نصونها من العبث وأن نرعى مسارها التصاعدي وأن نثبت أن العمل الجمعوي يمكن أن يكون نزيهاً، شفافاً ومؤثراً. هذه هي رهاناتنا الحقيقية وهذه هي رسالتنا في الحاضر والمستقبل. إن ما تعيشه جمعية شباب المواطنة المغربية منذ سنة 2019 إلى اليوم ليس مجرد مسار داخلي خاص بتنظيم جمعوي بل هو انعكاس لمشهد مجتمعي أشمل يعيش مخاضاته الكبرى. فإذا كانت الجمعية قد واجهت صعوبات في التوسع والتأطير وضبط العمل الداخلي فإن هذه الصعوبات نفسها هي التي تواجهها المؤسسات الوطنية، من أحزاب سياسية ونقابات وهيئات مدنية. المسألة في جوهرها ليست مرتبطة فقط بالقوانين أو اللوائح بل بثقافة المسؤولية وبمدى استعداد الأفراد للتضحية من أجل المصلحة العامة. لقد مررنا داخل الجمعية من محطات صعبة: خلافات داخلية، تقاعس بعض الأعضاء، طموحات شخصية زائدة عن حدها بل وحتى ممارسات غير أخلاقية من تحرش أو مساس بكرامة الأعضاء. غير أن ما يثير الانتباه هو أن هذه المظاهر لم تمنع الجمعية من النمو والانتشار عبر 61 فرعاً وعشر جهات ولم تكسر إرادة شبابها في تنظيم مخيمات، تدريب أطر والمساهمة في أنشطة توعوية وصحية خلال جائحة كورونا. وهذا دليل على أن قوة الفعل الجمعوي تكمن في “القدرة على التحول والتجاوز” لا في ادعاء الكمال أو الخلو من الأخطاء.
إن ماكيافيلي حين تحدث عن فن الحكم أشار إلى أن القائد الناجح ليس ذاك الذي يتجنب الصراعات بل الذي يحولها إلى فرص لإعادة البناء. وما نعيشه اليوم هو بالضبط لحظة إعادة بناء: إعادة الثقة بين المركزية والفروع، إعادة تعريف المسؤوليات وإعادة ضبط العلاقة بين الطموحات الفردية والمصلحة العامة. وهنا نستحضر أيضاً شوبنهاور الذي اعتبر أن الإنسان لا يواجه خصومه فقط في الخارج بل يواجه ضعفه في الداخل وهذا ما ينطبق على كثير من أطرنا الذين عليهم مواجهة تقاعسهم قبل أن يطالبوا غيرهم بالمحاسبة. أما دوستويفسكي فقد كشف أن الإنسان حين يُترك دون ضوابط أخلاقية يبرّر لنفسه أبشع الانحرافات. وهذا يفرض علينا داخل الجمعية أن نرفع منسوب الأخلاقية وأن نُرسّخ قيم الاحترام المتبادل، الشفافية والديمقراطية الداخلية لأنها الضمانة الوحيدة لاستمرار أي مؤسسة مدنية.
إن مستقبل الجمعية لا ينفصل عن مستقبل المغرب. فإذا أردنا أن نُكوّن جيلاً من الشباب المسؤول والمتألق فعلينا أن نبدأ من ذواتنا، من طريقة تسييرنا، من صدقنا مع أنفسنا. نحن لسنا مجرد جمعية تنظم أنشطة موسمية بل مشروع مجتمعي يروم تكوين مواطن الغد: مواطن يؤمن بالقانون، يحترم الآخر ويُدرك أن الحرية التزام قبل أن تكون امتيازاً. لقد آن الأوان أن نغادر مرحلة التبرير والتغاضي وأن ندخل مرحلة التقييم والمحاسبة لا بروح الانتقام بل بروح البناء. التقارير الأدبية والمالية التي ستُطلب من الفروع ليست ورقة إدارية فحسب بل هي تجسيد عملي لثقافة الشفافية. والورشات التي نُحضر لها مثل الجامعة الصيفية للشباب ليست مجرد أنشطة تكوينية بل هي رسالة بأننا قادرون على صناعة نموذج بديل للفعل الجمعوي في المغرب.و يمكن القول إن الجمعية اليوم تقف على عتبة جديدة: عتبة الانتقال من جمعية متوسعة عددياً إلى جمعية متماسكة نوعياً. وهذا هو التحدي الحقيقي: كيف نحافظ على الدينامية التصاعدية ونصونها من الانحرافات ونحوّلها إلى قوة اقتراحية حقيقية داخل المشهد الوطني. إنها لحظة تاريخية وإذا أحسنّا تدبيرها فإن جمعية شباب المواطنة المغربية لن تكون مجرد إطار جمعوي عابر بل ستتحول إلى مدرسة في المواطنة الفاعلة وإلى فضاء لإنتاج قادة الغد.
جمعية شباب المواطنة المغربية بين التحديات الداخلية ورهانات المستقبل

كتبه Srifi كتب في 14 سبتمبر، 2025 - 2:07 مساءً
مقالات ذات صلة
5 ديسمبر، 2025
بالصور : مجلس جهة مراكش آسفي يصادق على إحداث شركة “الجهة للبنية” ويعين سمير كودار ممثلاً له داخل مجلسها الإداري
أبو إياد / مكتب مراكش صادق مجلس جهة مراكش آسفي، صباح اليوم الخميس، خلال دورته الاستثنائية، على إحداث شركة التنمية [...]
5 ديسمبر، 2025
طانطان : توقيف عشرة أشخاص من بينهم امرأة لاشتباه تورطهم في قضية تتعلق بتكوين عصابة إجرامية متخصصة في الاتجار مخدر الشيرا، وحجز أزيد من 8 كيلوغرام ونصف من هذا المخدر
صوت العدالة : حسن بوفوس تمكنت عناصر فرقة الشرطة القضائية بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة طانطان، بناء على معلومات دقيقة وفرتها [...]
5 ديسمبر، 2025
بالصور : المحكمة الابتدائية بابن جرير تنظّم يوماً دراسياً لفائدة ضباط الشرطة القضائية حول مستجدات قانون المسطرة الجنائية
أبو إياد / مكتب مراكش ترأست الاستاذة حكيمة البحتي، وكيلة الملك لدى المحكمة الابتدائية بابن جرير، يوم الجمعة 5 دجنبر [...]
5 ديسمبر، 2025
زيارات ميدانية جديدة لعامل زاكورة لمتابعة المشاريع التنموية بتفتشنا وبني زولي وبوزروال
قام السيد محمد علمي ودان، عامل إقليم زاكورة، اليوم الجمعة 05 دجنبر 2025، بزيارة ميدانية تفقدية شملت جماعات تفتشنا، بني [...]
