الرئيسية أخبار فنية بين ذكر السكينة وبدعة الحضرة, التصوف الجنيدي نموذجاً

بين ذكر السكينة وبدعة الحضرة, التصوف الجنيدي نموذجاً

IMG 20250822 WA00001
كتبه كتب في 22 أغسطس، 2025 - 1:11 صباحًا

محمد قريوش_صوت العدالة

تنتشر في بعض الزوايا الصوفية طقوس تُعرف بـ”الحضرة”، حيث يختلط الذكر بالصراخ والقفز والعويل، في مشهد يثير تساؤلات حول أصالته وموافقته للكتاب والسنة. وبينما يراها البعض طريقًا إلى الروحانية، يكشف النظر الشرعي والتاريخي أن هذه الممارسات أقرب إلى البدعة منها إلى العبادة، خاصة إذا قارناها بنموذج التصوف السني الأصيل كما مثّله الإمام الجنيد البغدادي.
لم يعرف تاريخ المسلمين، منذ عهد النبوة، طقساً في العبادة يقوم على الصراخ والرقص كما نراه في “الحضرة” التي تمارسها بعض الزوايا. مشاهد غريبة تختلط فيها الأصوات بالحركات، حتى يُخيّل للناظر أنه أمام عرض مسرحي أكثر مما هو أمام عبادة يُبتغى بها وجه الله. ومع ذلك يصرّ البعض على نسبتها إلى التصوف والروحانية.

لكن حين نفتح كتاب الله، لا نجد إلا دعوةً إلى ذكرٍ يفيض بالسكينة والخشوع. يقول تعالى: ﴿وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الأعراف: 205]. ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. بل إن الله ذمّ صلوات الجاهلية عند البيت الحرام، يوم كانوا يطوفون بالصفير والتصفيق والصياح، فقال جل شأنه: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنفال: 35]. أليس هذا الوصف عين ما نراه اليوم في طقوس الحضرة؟

والسنة النبوية أوضحت الصورة أكثر. فقد روى البخاري (2992) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لأصحابه حين أكثروا من رفع أصواتهم: «أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم». وروى البخاري (1294) ومسلم (103) عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية». وروى مسلم (1718) عن عائشة رضي الله عنها قوله ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». هذه الأحاديث تضع حدًّا فاصلاً: العبادة لا تقوم على العويل والصياح، بل على الطمأنينة والاتباع.

العلماء الكبار لم يترددوا في التنبيه على هذا الانحراف. الإمام الشافعي اعتبر أن الرقص إذا اتُخذ قربة فهو بدعة منكرة. ابن تيمية وصف ما يقع في هذه الطقوس بأنه من أحوال الجاهلية وتشبه بالنصارى واليهود. وابن القيم اعتبر التمايل والهيجان في الذكر من تلبيس إبليس على العباد.

والأهم أن الصحابة والتابعين – وهم خير القرون – لم يعرفوا هذه الممارسات. لم يُنقل عنهم في بدر ولا في أحد ولا في مجالس الذكر أنهم صرخوا أو قفزوا أو تمايلوا. كانوا يذكرون الله بقلوب خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأبدان ثابتة. ولو كان الصراخ والرقص طريقًا إلى الله لسبقونا إليه.

هنا يبرز الفرق الجوهري بين الحضرة وبين التصوف السني الأصيل كما مثّله الإمام الجنيد البغدادي، “سيد الطائفة”، الذي اختصر التصوف في جملة بليغة: “طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في طريقنا”. الجنيد جعل التصوف علماً وعملًا، يزكي النفس ويهذب الأخلاق، ويغرس في القلب الزهد الحقيقي: أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك. وكان يؤكد أن التصوف كله آداب، ولكل وقت أدب، ولكل حال أدب. تصوف الجنيد قائم على السكينة والوقار، على الذكر الهادئ الخاشع، لا على الصراخ والرقص والهيجان.

بين التصوف الجنيدي وبين الحضرة التي ابتدعها بعض المتأخرين مسافة بعيدة: الأول طريق السكينة والاتباع، والثانية طريق الضجيج والابتداع. والسؤال الذي يبقى مطروحًا على القارئ: أيهما أليق بدين جاء ليهدي الناس إلى سواء السبيل؟

مشاركة