ربورطاج : فاطمة القبابي
صوت العدالة
اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، عذوبة التفاصيل المفعمة بالحياة؛ هدوء و دفء الأماكن، عبق التاريخ، خرير المياه وخضرة الطبيعة، إنها شفشاون الجوهرة الزرقاء، قطعة من السماء استوطنت المغرب.
حين تدخل الجوهرة الزرقاء، فكأنك تنزلق إلى عصر آخر، تجد نفسك أمام مدينة بين أحضان سلسلة جبال الريف، أقصى شمال المغرب، بجهة طنجة تطوان الحسيمة، ممتدة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمالا، يحدها إقليم وزان وتاونات جنوبا، و إقليم الحسيمة شرقا، و إقليم تطوان و العرائش غربا، أيقونة السياحة التي ترتفع إلى ما يقارب 600 متر عن سطح البحر، لوحة طبيعية متناغمة تفتن زوارها، بتضاريسها الجبلية المتباينة الانحدارات، و أوديتها المنخفضة، ومبانيها العتيقة، ومآذنها المتضرعة إلى السماء.

سفر في عالم الأحاسيس
السفر إلى مدينة شفشاون، تجربة فريدة تغذي كل الحواس والأحاسيس، هذه الجوهرة تأسر زائرها بزرقة ألوان دروبها، ودفء أزقتها المؤثثة بالسقايات التي تحكي سلسلة من الحكايات المتجددة عبر الزمن، في هذا الصدد يؤكد، عبد السلام المؤدن نائب رئيس الجمعية الجهوية للمرشدين السياحيين، أن السقاية أو ما يطلق عليه أهل شفشاون “سبيلة” من السبيل، كانت تعتبر بمثابة صدقة جارية مثل الحمامات، الأفرنة، المساجد، والكتاتيب القرآنية المحبسة، كلها أماكن لذاكرة تختزن تاريخا عريقا يشكل امتدادا يؤرخ لحقب التراث الثقافي للمنطقة.

روح الأندلس وحضارة الموريسكين
لم تنطفئ روح الأندلس التي سكنت المدينة منذ قرون، بل بقيت كل التفاصيل الباهرة في فن العمارة، الثقافة والموسيقى، تروي وقائعا وتستحضر أحداثا تاريخية، لحظات عزة وانكسار، فحسب الروايات فإن اللون الأزرق لطلاء البنايات الأثرية والمتاجر والمساكن، فبقدر ما هو هوية بصرية لمدينة متجددة تواكب روح العصر هو كذلك رمز للسلام والتسامح، وذلك لأن المدينة احتضنت اليهود والأندلسيين والموريسكيين الذين طردوا من ديارهم بعد تعرضهم للتطهير العرقي.
حضارة الموريسكيين، وروح الأندلس لم تبرح فضاءات المدينة فهي تحكي عن تاريخ بداية سبعينيات القرن الخامس عشر عندما حل بها الموريسكيون الذين طردوا من الأندلس إبان اشتداد حروب الاسترداد مع إيزابيلا الكاثوليكية، فاستقبلهم مؤسس المدينة مولاي علي بن موسى بن راشد العلمي.

فضاءات بجمال لا تخطئه العيون
أبسط جزء في اللؤلؤة الزرقاء لا يمل منه الإنسان بدءا بالمدينة العتيقة و أحيائها، المدينة القديمة، السويقة، القصبة، الملاح، مرورا بساحة وطاء حمام، ساحة عمومية داخل المدينة العتيقة، هي القلب النابض للمدينة و مركز الحياة الاجتماعية والسياحية، تؤثث فضاءها المطاعم، المقاهي، المحلات، ونافورة مياه بأشكال مختلفة فضلا عن المسجد الأعظم، هذا الأخير من بين المساجد التاريخية التي تأسست في عهد حكم بني راشد العلمية في القرن 16م ، على يد محمد بن مولاي علي بن راشد ذو الصومعة الثمانية الأضلع.
غير بعيد عن هذه الفضاءات، وعلى منظر بانورامي يوجد منبع رأس الماء، المنبع الذي يزود المدينة بمياه الشرب، يصب من داخل الجبل على شكل شلال تتوسطه ساحة واسعة يمر منها الماء، تحيط به أشجار التين والزيتون، بمحاذاة المنبع و على طول الجسر تعرض النساء منتجات محلية ( أكسسوارت، صور، ملابس تقليدية..)، تقول إحدى النساء اللواتي يعرضن منتجاتهن ” نعرض هذه المنتجات التقليدية للتعريف بالمنتجات المحلية التي أبدعت فيها يد الصانع الشفشاوني، وكذا لتشجيع السياح على زيارة المدينة”.

سحر اللؤلؤة لا يقتصر على تراثها المعماري المادي فحسب، بل تشتهر أيضا بطيبة أهلها الذين رغم اختلاطهم بجميع الاثنيات من جميع أرجاء العالم، لازالوا مُتشبتين بطبيعتهم الجبلية الأصيلة، في معاملاتهم و أزيائهم وأسلوب حياتهم البسيط.

الحرة وبراشد نقطة استقطاب
ذكر مدينتي شفشاون و تطوان يعيد إلى الأذهان رمزية السيدة الحرة، الملقبة بأميرة الجهاد وأبوها مولاي علي براشد مؤسس شفشاون، الشخصيتان البارزتان في تاريخ وحضارة المدينة، إذ يتوافد الزوار من كل صوب وحدب على رياض الزاوية الريسونية مثوى السيدة الحرة المشهود لها بالعلم الغزير والحنكة السياسية قبل وأثناء حكمها مدينة تطوان، من 1510م وحتى 1542م وهي السنة التي تمت فيها إقالتُها.
أما مولاي علي براشد مؤسس مدينة شفشاون، المحارب المحنك والمروج للصورة الإسلامية بها، كما تحكي الكتب التاريخية، أحد أبرز الوجوه التاريخية التي تفتخر بها المدينة الراشيدية نسبة له، ساهم في الترويج للصورة الإسلامية في المدينة، عبر تلقين المبادئ الدينية لأبنائها باعتباره دينا يحث على التسامح والتعايش.

اليوم يشكل ضريح بن راشد أحد أبرز المزارات في شفشاون، وفضاءً رحبا للعبادة والصلاة، وقراءة ما تيسر من الذكر الحكيم كما أن سكان المدينة يولون أهمية كبيرة للضريح، إذ يتحول سنويا إلى محج ديني يلتئم فيه كبار شيوخ الحضرة الشفشاونية في لحظات من الذكر والتصوف، وفي ذلك إسهام ايجابي في التنمية المستدامة وتعزيز للتواصل الثقافي بهدف تنمية التفاعل بين الثقافات بروح من الحرص على مد الجسور بين الشعوب.



