محمد قريوش_صوت العدالة
في تصريح فاجأ المتابعين للشأن الإفريقي، أعلن الرئيس الجنوب إفريقي السابق جاكوب زوما، باسم حزبه الجديد uMkhonto we Sizwe، دعمه الصريح لسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية. لم يكن هذا الموقف مجرد اجتهاد شخصي عابر من سياسي متقاعد، بل إعلان يعكس تحوّلًا رمزيًا عميقًا في مواقف أحد رموز النضال ضد نظام الفصل العنصري، ويمهّد لاحتمال تصدع جبهة دعم البوليساريو داخل الاتحاد الإفريقي، خاصة إذا أُرفق بتحوّلات سياسية فعلية داخل جنوب إفريقيا.
التمييز هنا ضروري بين الاعتراف الحزبي والاعتراف الرسمي. في القانون الدولي، لا يمكن اعتبار دعم حزب سياسي بمثابة اعتراف دولتي ما لم يصدر عن جهة تنفيذية أو تشريعية مخوّلة بذلك. غير أن ما يضفي على تصريح زوما وزنه، هو خلفيته الرمزية، وتوقيته السياسي، والسياق الانتخابي الذي يأتي فيه. فزوما، وإن كان خارج السلطة، لا يزال يتمتع بنفوذ واسع وسط فئات اجتماعية وشعبية عريضة، خصوصًا في إقليم كوازولو ناتال. إعلانه دعم المغرب يفتح الباب لتغيرات جوهرية في ميزان القوى الإفريقي، خصوصًا إذا ما نجح حزبه في الوصول إلى الحكم أو التأثير في التحالفات الحكومية المقبلة.
جاكوب زوما ليس شخصية عابرة في التاريخ السياسي لبلاده. فهو أحد رموز النضال التحرري، وسبق أن سُجن في جزيرة روبن آيلاند إلى جانب نيلسون مانديلا، قبل أن يصعد تدريجيًا في هرم السلطة، إلى أن أصبح رئيسًا لجنوب إفريقيا بين عامي 2009 و2018. لكن مسيرته تلطّخت بسلسلة من قضايا الفساد، أبرزها ما عُرف بفضيحة “الاستيلاء على الدولة” (State Capture) من خلال علاقته بعائلة غوبتا، التي اتُّهمت بالتأثير على التعيينات والصفقات العمومية لمصلحتها. وفي عام 2021، رفض زوما الإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق، فصدر في حقه حكم بالسجن 15 شهرًا، ما أدى إلى اضطرابات عنيفة خلفت أكثر من 300 قتيل.
رغم ذلك، عاد زوما بقوة إلى الساحة السياسية من خلال تأسيس حزبه الجديد، الذي حمل اسم الجناح العسكري السابق لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، في توظيف ذكي للرمزية النضالية. هذا الحزب تمكن من دخول البرلمان في انتخابات 2024 بحوالي 15% من الأصوات، في وقت فقد فيه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم أغلبيته لأول مرة منذ نهاية نظام الأبارتايد. هذا التراجع التاريخي يعكس تآكل الشرعية السياسية للمؤتمر الوطني بسبب الفساد المزمن، وتدهور الخدمات العامة، والانقطاعات المتكررة للكهرباء.
مع هذا الصعود الجديد لحزب زوما، يبرز احتمال مشاركته في حكومة ائتلافية مقبلة، ما يجعله مرشحًا لتولي وزارات استراتيجية، من بينها الخارجية. وإذا تحقق ذلك، فإن إعلان الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه قد يتحول من وعد انتخابي إلى موقف رسمي يصدر عن إحدى أقوى الدول الإفريقية.
جنوب إفريقيا لا تملك فقط رمزية التحرر ومكانة نضالية تاريخية، بل تمارس نفوذًا حقيقيًا في القارة. فهي ثاني أكبر اقتصاد بعد نيجيريا، وعضو فاعل في مجموعة بريكس، وتمتلك شبكة علاقات ممتدة في القارة من خلال برامج التنمية والمساعدات والتدريب. وقد استخدمت هذا النفوذ لتشكيل جبهة داعمة للبوليساريو داخل الاتحاد الإفريقي، مستفيدة من علاقاتها التاريخية مع الجزائر، وامتدادها في دول مثل ناميبيا، بوتسوانا، ليسوتو، وأوغندا.
في هذا السياق، فإن أي تغير في موقف جنوب إفريقيا سيُحدث صدمة في معسكر الخصوم. فناميبيا، مثلًا، تُعد من أكثر المدافعين عن البوليساريو، ويعود هذا إلى التأثير العميق لبريتوريا بعد الاستقلال. أما بوتسوانا، فرغم أنها بدأت تراجع مواقفها، فقد كانت ضمن المعارضين لعودة المغرب للاتحاد الإفريقي في 2017. وحتى دول مثل أوغندا والمالاوي، حيث التغلغل الجنوب إفريقي قائم عبر الدعم الفني واللوجستي، قد تعيد حساباتها إذا تغيرت البوصلة في بريتوريا.
لكن هذا التحول لا يمكن أن يكون مجانيًا، فكل دعم له ثمن. وعلى المغرب أن يُدرك أن استثمار هذا الانفتاح يتطلب توجيه مكاسب حقيقية نحو الحزب الجديد: شراكات اقتصادية ملموسة، مشاريع استثمارية في معاقل زوما الانتخابية، وتنسيق أمني في قضايا الإرهاب والهجرة والجريمة المنظمة. كما يجب تعزيز العلاقات مع دوائر التأثير الجنوب إفريقية خارج حزب المؤتمر الوطني، وتوسيع الحضور المغربي في قطاعات مثل التعليم العالي والفلاحة، حيث تمتلك جنوب إفريقيا خبرات قابلة للتقاطع مع النموذج المغربي.
من الناحية الاستراتيجية، يمكن لهذا التحول أن يؤدي إلى تقليص حجم البوليساريو داخل الاتحاد، وربما الدفع لاحقًا نحو تجميد عضويته أو إعادة النظر في وضعه القانوني، خاصة إذا اقترن الأمر بسحب أو تجميد اعترافات أخرى في دول إفريقية مترددة.
لكن المغرب مطالب أيضًا بالحذر. فجاكوب زوما، رغم ماضيه الثوري، لا يزال شخصية مثيرة للجدل، وسجله القضائي قد يُستخدم ضده في المحافل الدولية. كما أن احتمالات فشله في قيادة الحكومة أو التأثير على السياسة الخارجية تبقى قائمة. إضافة إلى ذلك، فإن رد فعل الجزائر سيكون على الأرجح حادًا، وقد تسعى إلى إعادة تنشيط تحالفاتها في القارة أو تأليب الرأي العام الإفريقي ضد ما تعتبره “شراءً للمواقف” انطلاقا من ثقافة نظام العسكر الذي دأب على ضخ أموال الغاز لبلدان و شخصيات و منظمات داخل القارة السمراء لضمان مواقف مناوئة للوحدة الترابية للمغرب.
في النهاية، فإن دعم جاكوب زوما للمغرب هو أكثر من تصريح سياسي، وأقل من اعتراف دولتي، لكنه يفتح نافذة استراتيجية نادرة. إن أحسن المغرب استثمارها بذكاء وهدوء، فقد تكون هذه الخطوة بوابة لتفكيك التحالفات المناوئة، وبداية لمرحلة جديدة في تموقع المملكة داخل إفريقيا، تُبنى على المصالح والتنمية، لا على سرديات التحرر البائدة.