بقلم: عبد السلام اسريفي
لم يعد النضال كما كان يُفهم قديماً؛ موقفاً نبيلاً يصدر عن وعي ومسؤولية، بل أصبح عند بعض من يسمّون أنفسهم “مناضلين” مجرد بطاقة عبور نحو الظهور، ووسيلة لتلميع الذات وتحصيل المكاسب الرمزية أو حتى المادية. ما إن تحل مناسبة وطنية أو حدث دولي، حتى تراهم يتدافعون إلى مقدمة الصفوف، رافعين الشعارات المحفوظة، مرددين العبارات الجاهزة، وكأنهم ممثلون في مشهد مكرور لا يختلف إلا في المكان والزمان.
هؤلاء “المناضلون الموسميون” لا يتحركون بدافع المبدأ أو الإيمان بالقضية، بل وفق منطق العرض والطلب، يظهرون حين تكون الأضواء مشرعة، ويختفون حين يخفت صدى الأحداث. والأسوأ من ذلك، أنهم نصبوا أنفسهم محللين وخبراء في كل شيء؛ من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى الرياضة، دون علم أو تخصص، مكتفين بما يلتقطونه من عناوين سطحية، أو بما يُملى عليهم من خلف الستار.
لقد أصبح الفضاء الرقمي اليوم مسرحاً رحباً لهؤلاء، يطلّون عبره بجرأة مبالغ فيها، يوزّعون الاتهامات، ويحاكمون الأشخاص والمؤسسات، دون أن يستندوا إلى أي سند قانوني أو معرفي. إنهم يحولون القضايا العامة إلى مادة للجدل والضجيج، ويستثمرون في المشاعر الجماعية، في زمن صار فيه “الترند” أقوى من المبدأ، و”الإعجاب والمشاركة” بديلاً عن الموقف الواعي والمسؤول.
النضال بين المبدأ والمصلحة
النضال الحقيقي ليس شعاراً يُرفع، ولا صورة تُنشر، ولا موقفاً يُتخذ تحت ضغط الجماعة أو بهدف كسب التعاطف. إنه فعل متواصل، نابع من ضمير حيّ، يدافع عن القيم قبل الأشخاص، وعن العدالة قبل الانتماءات. لكن مناضلي المناسبات فرّغوا هذا المفهوم من محتواه، وجعلوا منه مهنة، وشعاراً صوتياً، يلوّحون به كلما اقتضت الحاجة، دون أن يدفعوا ثمن الموقف أو يلتزموا بمسؤولياته الأخلاقية.
هذه الفئة، التي تختزل النضال في حضور إعلامي أو في تدوينة حماسية، لا تدرك أن النضال يتطلب استمرارية وصبراً، وأن الدفاع عن القضايا الكبرى لا يكون بالصراخ أو الاستعراض، بل بالعمل الميداني والمعرفة والمصداقية. فكم من قضية عادلة فُقد بريقها بسبب من تصدروا المشهد باسمها، دون أن يحملوا من همّها سوى ما يحقق لهم الظهور!
القضية الفلسطينية نموذجاً صارخاً
لا يخفى على أحد أن القضية الفلسطينية، بما تمثله من رمز للكرامة والعدالة، أصبحت ميداناً خصباً لهذا النمط من النضال المناسباتي، مع العلم أن هناك قضايا أخرى في دول أخرى تتطلب هي الأخرى الالتفات إليها والنضال من أجلها، فمع كل عدوان أو حدث مأساوي، تتقاطر الوفود، وتنظم المسيرات، وتُرفع الشعارات ذاتها التي تكررت منذ عقود، دون أن تترجم في الواقع إلى فعل مؤثر أو تغيير ملموس.
تتحول الساحات إلى منصات خطابية، يتبارى فيها البعض على رفع الصوت أكثر من غيره، وكأن المقصود هو تسجيل الحضور لا التعبير عن الوجع. وغالباً ما تكون الرسائل الموجهة في تلك التجمعات داخلية أكثر مما هي تضامنية، تخدم حسابات سياسية أو حزبية أكثر مما تخدم القضية ذاتها.
أما الإعلام العالمي، الذي يُفترض أن يكون بوابة نقل المعاناة الحقيقية، فهو لا يتأثر بالشعارات، بل بالصور الحية القادمة من غزة وغيرها من البلدان، ومن ميادين الصمود في فلسطين. فالتأثير لا يصنعه الخطاب المكرر، بل الصورة الصادقة التي تنقل الألم الإنساني كما هو، دون وساطة أو تزييف.
ظاهرة نفسية واجتماعية
تناول علماء النفس والاجتماع هذه الظاهرة، وسمّوها “النضال المناسباتي”، أي ذلك السلوك الذي يدفع بعض الأفراد إلى الظهور في المناسبات العامة كوسيلة للتنفيس العاطفي أو لتأكيد الذات أمام الجماعة. إنها حالة من “التفريغ الرمزي”، يمرر من خلالها الأشخاص أو التنظيمات رسائل محددة، ويستعملون فيها وجوهاً وأسماء مألوفة لتأثيث المشهد، حتى يبدو حقيقياً ومقنعاً.
لكن الحقيقة أن ما يبدو نضالاً في الظاهر، ليس سوى عرض مسرحي منمق، يختفي بمجرد أن يُسدل الستار على الحدث.
خاتمة: النضال مسؤولية لا شعار
النضال ليس موسماً، ولا بطاقة تعريف، ولا وسيلة لتبرير الوجود. إنه فعل مستمر، يستمد قوته من الإيمان بالمبدأ، ومن الاستعداد لتحمل ثمن الموقف. المجتمعات لا تتقدم بالشعارات ولا بالمظاهر، بل بالصدق في النية، والاستمرارية في العمل، والإخلاص في الدفاع عن القضايا العادلة.
فلْيُترك النضال لأهله، أولئك الذين يعملون في صمت، بعيداً عن الأضواء، لا ينتظرون شكراً ولا تصفيقاً، لأنهم يعلمون أن النضال الحقيقي لا يُقاس بحجم الشعارات، بل بعمق الأثر الذي يتركه في الواقع.
فالشعوب المقهورة ليست في حاجة إلى صور تتزين بها صفحات المواقع الاجتماعي،أو خطابات على منابر إعلامية ،بل الى قناعات ومرافعات صادقة ،عمل مستمر دون ضجيج أو مواسم….

