مسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين .. قراءة في ضوء مقتضيات قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة

نشر في: آخر تحديث:

ذ. محمد القاسمي

كاتب وباحث في القانون الخاص

مدير مجلة الباحث وسلسلة الأبحاث

– إهداء إلى روح أستاذي الطاهرة مبارك القاسمي رحمة الله عليه

مقدمة:

يضل المبدأ العام الذي يحكم مسؤولية الأشخاص الذاتيين أن كل إنسان ذو أهلية كاملة يسأل عن خطئه الشخصي الذي سبب ضرر للغير وبالتبعية يلزمه بتعويض ذلك[1] إلا ما استثني بنص القانون طبعا، ومن الاستثناءات المنصوص عليها قانونا، تلك التي يسأل الشخص فيها عن خطأ مرتكب من قبل الغير كان سبب في إلحاق ضرر بشخص أو أشخاص آخرين، جاء في الفقرة الأولى من الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود المغربي[2] ما يلي:” لا يكون الشخص مسؤولا عن الضرر الذي يحدثه بفعله فحسب، لكن يكون مسؤولا أيضا عن الضرر الذي يحدثه الأشخاص الذين هم في عهدته…”.

فانطلاقا من ذات الفصل أعلاه، نجد المشرع قد عمل على جرد جملة من الاستثناءات التي يكون فيها الشخص مسؤولا عن أفعال الغير الضارة بالآخرين، وعلى رأسها المسؤولية القائمة تجاه الأب والأم بعد وفاته عن أبنائهما القاصرين الساكنين معهما المسببة للضرر في مواجهة الغير، جاء في الفقرة الثانية من الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود للتنصيص على ما يلي:”…الأب فالأم بعد موته، يسألان عن الضرر الذي يحدثه أبناؤهما القاصرون الساكنون معهما…”.

فانطلاقا من كل ما تقدما ذكره أعلاه، نعمد إلى طرح إشكالات مفادها: ما الأساس القانوني الذي تقوم عليه مسؤولية الأبوين عن أفعال أبنائهم القاصرين، أهي الالتزام الملقى على عاتقهم بالرقابة، أم باعتبارهم ممارسين للولاية ؟ ما شروط قيام هذه المسؤولية ؟ وما جل الآثار المترتبة عنها ؟ وهل يمكن دفعها ؟ وما أهم الإجراءات المتبعة للحصول على التعويض عن الصرر ؟

ولأجل الإلمام بتفاصيل الموضوع المدروس، سنعمد إلى اعمال التصميم المنهجي التالي، حيث نخصص (المطلب الأول) لمناقشة أساس المسؤولية المدنية للأبوين عن أبنائهم القاصرين مع ايراد صور وحالات لهذه المسؤولية، على أن نخصص (المطلب الثاني) لمناقشة شروط تحقق هذه المسؤولية والآثار الناجمة عنها.

المطلب الأول: أساس مسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين وصور وحالات منها.

سنقسم تفاصيل هذا المطلب إلى فقرتين، نخصص الفقرة الأولى للحديث على الأساس القانوني لمسؤولية الأبوين عن أفعال أبنائهم القاصرين الضارة بالغير، على أن نتطرق في الفقرة الثانية لصور وحالات تحقق هذه المسؤولية في مواجهة الأبوية معا أو أحدهما.

الفقرة الأولى: الأساس القانوني لمسؤولية الأبوين عن الأفعال الضارة لأبنائهم القاصرين

انطلاقا من الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود، فالمشرع المغربي كنظيره الفرنسي حصر المسؤولية المترتبة عن الأفعال الضارة التي يرتكبها الأبناء القاصرين بالأب، وتنتقل هذه المسؤولية إلى الأم بعدما يقضي الأب نحبه، أما الوصي أو غيره من الأصول والحواشي فلا يسألون عن الضرر الذي يحدثه القاصر ولو كان مقيما معهم. وفي هذا يظهر قصور النص القانوني، إذ هناك حالات كثيرة يكون القاصر المسبب للضرر يتيما مقيما عند أحد الأقارب، ففي هذه الحالة لا يمكن مطالبة هؤلاء بتحمل تبعات الفعل الضار المرتكب لأن مقتضيات النص القانوني لا تسعف في ذلك.

وبخلاف ما هو مسطر أعلاه، نجد العديد من التشريعات المقارنة كالتشريعين المدنيين المصري[3] – المادة 178 من منه[4]– والسوري[5] – الفصل 288-1 منه[6]-، قد وسعت حلقة المسؤولين عن رقابة الأبناء القصر، في حين ذهب القانون المدني اللبناني إلى جعل الأوصياء إلى جانب الآباء مسؤولين عن الأفعال الضارة التي يرتكبها الأطفال القصر، حيث جاء في المادة 126 من قانون الموجبات اللبناني في فقرتها الأولى للتنصيص على ما يلي:” الأصول والأوصياء مسؤولون عن كل عمل غير مباح يأتيه الأولاد القاصرون المقيمون معهم والخاضعون لسلطانهم…”.

ففي إطار البحث عن الأساس القانوني لمسؤولية الأبوين عن أخطاء أبنائهم المسبب للضرر في مواجهة الغير، أهو واجب الرقابة أم الولاية الممارسة على هؤلاء؟ يسير  أحد الفقيه للقول:” فلئن كان الآباء والأمهات يسألون عن الأعمال الضارة التي يرتكبها أولادهم القصر المقيمون معهم، فذلك للولاية التي يتمتع بها على أبنائهم، وما تستتبعه هذه الولاية من التزام بالقيام برقابة وتربية من هم في كنفهم من القصر”[7]، وهو بذلك يجعل الأساس القانوني لمسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين في الولاية التي أناط القانون لهم حق ممارستها عليهم تطبيقا لمقتضيات مدونة الأسرة، والتي تثبت للأب أولا وتليه الأم عند عدم وجوده أو فقده لأهليته كما نصت على ذلك لمقتضيات المادة 231 من مدونة الأسرة.

وعلى النقيض من ذلك، يذهب أحد الفقه الآخر إلى تبني توجه مغاير للتوجه السابق، إذ يقر بأنه لا يمكن أن تقوم هذه المسؤولية على أساس الولاية[8]، وسنده في ذلك أن الأم لا تكون لها ولاية على القاصر حتى بعد موت الأب، فالأم لها حق الحضانة ولا ولاية لها، وعطفا على ذلك تكون مسؤولية الأبوين المنصوص عليها في الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود نابعة من الرقابة الواجب عليهما القيام بها تجاه القاصرين، لا الولاية التي يتمتع بها الأب دون الأم[9].

والرأي في ما نعتقد – وأمام اختلاف التوجهين السالفين الذكر أعلاه -، أن التوجه الأقرب للصواب هو الذي يعتبر أن أساس مسؤولية الأبوين عن أفعال أبنائهم القاصرين تنبني على أساس النيابة الشرعية التي تنبع منها الولاية التي يمارسانها عليهم، فمدونة الأسرة[10] جاءت بمقتضيات جديدة ومنها جعل الأم إلى جانب الأب ولية على أبنائها القاصرين عند عدم وجود هذا الأخير أو فقده، وذلك في المادة 230 التي تنص:” يقصد بالنائب الشرعي في هذا الكتاب: 1) الولي وهو الأب والأم والقاضي؛…” كما جاء في المادة 231 من نفس المدونة ما يلي:” صاحب النيابة الشرعية. – الأب الراشد؛ – الأم الراشدة عند عدم وجود الأب أو فقده لأهليته؛…”، فمواد المدونة الآنفة الذكر تنسجم إلى حد كبير ومقتضيات الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود، بخلاف التوجه الثاني المومأ إليه أعلاه، والذي إن فرضنا جدلا صحته، فإنه يكون كذلك إذا قمنا بربطه بمقتضيات مدونة الأحوال الشخصية الملغاة[11] التي قصرة الولاية على الأبناء على الأب فقط دون الأم، مما نخلص معه والحال هذا وحسب ذات الاعتقاد أعلاه إلى التصريح بأن الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الأبوين عن أخطاء أبنائهما القاصرين المسببة للضرر للغير المنصوص عليها في الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود هي الولاية النابعة من كونهما نائبين شرعيين عن أبنائهما القاصرين، وبالتبعية يكون الأبوين كل منهما حسب الشروط المنصوص عليها قانونا مسؤولا عن أفعال أبنائه القاصرين إذا كانوا ساكنين معهم طبعا.

الفقرة الثانية: صور وحالات قيام مسؤولية الأبوين أو أحدهما عن أفعال أبنائهم القاصرين الضارة بالغير.

جاء المشرع المغربي في ضل مدونة الأسرة بالعديد من المقتضيات القانونية التي تهم بالأساس مسؤولية الأبوين أو أحدهما عن أبنائهم القاصرين، سواء عند قيام العلاقة الزوجية أو في حالة انتهائها بأحد الأسباب الواردة في نفس المدونة، حيث جاءت المادة الرابعة من نفس القانون للتنصيص على ما يلي:” الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة”.

فالأبوين أثناء قيام العلاقة الزوجية تقع عليهما جملة من المسؤوليات الرامية بالأساس إلى رعاية الأسرة كي تؤدي وضيفتها الاجتماعية، سواء تجاه بعضهم لبعض، أو تجاه أبنائهم، وهو ما تؤكده المادة 51 من المدونة التي نصت في بندها الخامس على ما يلي:” الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين:…3- تحمل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال؛…”، كما نصت المادة 54 من نفس المدونة[12] على جملة من الالتزامات التي يتحملها الزوجين في مواجهة أبنائهم؛ أما في حالة انحلال ميثاق الزوجية بأحد أسباب التطليق أو الطلاق أو الوفاة، فهنا يتحمل الزوجين المسؤولية تجاه أبنائهم القاصرين وفقا لأحكام الحضانة والنيابة الشرعية كما تبين ذلك المادة 54 أعلاه عندما نصت على ما يلي:”…عندما يفترق الزوجان، تتوزع هذه الواجبات بينهما بحسب ما هو مبين في أحكام الحضانة؛

 عند وفاة أحد الزوجين أو كليهما تنتقل هذه الواجبات إلى الحاضن والنائب الشرعي بحسب مسؤولية كل واحد منهما….”.

فأمام هذا التعدد التشريعي للمقتضيات التي لها علاقة بمسؤولية الأبوين تجاه أبنائهم القاصرين وخاصة النصوص المنظمة للحضانة والنيابة الشرعية، تختلف معه صور المسؤولية باختلاف وضعية القاصر في محيطه الأسري، وذلك بين الحالة التي يكون فيها القاصر المرتكب للخطأ الذي سبب ضررا للغير يعيش في كنف أبويه في علاقة زوجية قائمة، وبين الحالة التي تكون هناك فرقة بين الأبوين وتسند حضانة الأبناء القاصرين للأم، والحالة التي تسند فيها الحضانة للأب بعد سقوطها عن الأم أو تنازلها عنها له:

الصورة الأولى: مسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين في زوجية قائمة

يتحمل الأبوين معا كل بحسب شروط معينة مسؤولية على أفعال أبنائهم القاصرين الساكنين معهم في بيت الزوجية التي سببت ضرر للغير، وهذه المسؤولية تبقى متدرجة بخصوص مسألة من يتحملها من الأبوين أولا تم من يليه، فالأب بحكم الشرع والقانون والواقع هو الولي أولا على أولاده[13]، وهو أول من يسأل عن الأفعال الضارة لأبنائه القاصرين، جاء في قرار لمحكمة النقض ما يلي:” لا تقبل الدعوى المرفوعة ضد أم القاصر بصفتها ولية شرعية له، والحال أن الأب الذي له الولاية الشرعية موجود”[14]، تم تليه الأم بعد ذلك في حالة ما يكون الأب غائبا أو مفقودا أو فاقدا للأهلية[15]، وهو طرح ينسجم إلى حد ما مع مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود الذي يحمل المسؤولية للأم عن أبنائها في حالة وفاة الأب.

الصورة الثانية: مسؤولية الأم الحاضنة بعد الفراق عن أبنائها القاصرين

بمجرد ما يتم فصل الرابطة الزوجية المنتجة لأبناء لم يصلوا بعد لسن الرشد القانوني بحكم قضائي، فيحدد في نفس الحكم من أسندت له الحضانة من الأبوين، حيث تكون الأم أولى بها إذا توفرت فيها الشروط القانونية[16]، فبمجرد ما تسند لهذه الأخير الحضانة تصبح ملزمة بمراقبة تصرفات القاصر ومسؤولة على أفعاله المسببة للضرر في مواجهة الغير كقاعدة عامة، حيث إن الاستثناء الذي قد يرد في هذه الحالة تلك الفترة التي يكون فيها المحضون في عهدة أبيه بمناسبة تنفيد مقرر الزيارة، ففي هذه الحالة يسأل الأب عن خطئ ابنه القاصر المسبب للضرر للغير، وذلك لكونه هو الملزم بالرقابة والإشراف عليه طيلة المدة التي يكون فيها القاصر معه إلى حين تسليمه لأمه الحاضنة.

الصورة الثالثة: مسؤولية الأب الحاضن عن أبنائه القاصرين بعد الفراق

استثناء، فقد تقرر المحكمة في منطوق الحكم القاضي بإنهاء العلاقة الزوجية اسناد الحضانة للأب، إما لعدم أهلية الأم لتحملها أو تنازلها عنها لفائدته، أو في الحالة التي تتخلف أحد الشروط المنصوص عليها قانونا كانعدام استقامتها الذي يعد سببا لإسقاط الحضانة عنها، جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالجديدة[17] للتنصيص على ما يلي:” تعتبر محاضر الضابطة القضائية المتضمنة لاعترافات الأم بتعاطيها الفساد حجة على ما تضمنته ودليلا على سوء سلوكها المبرر لإسقاط حضانتها”.

فإذا أسندت الحضانة للأب بعد توفر الموجب القانوني لذلك، فإن يتحمل مسؤوليته عن الخطأ المقترف من قبل القاصر والمسبب للضرر للغير، استنادا في ذلك لكونه الملزم قانونا وقضاء بمراقبة وتتبع تصرفاته وأي تقصير من جانبه يحمله المسؤولية بالتبعية، وقد تلقى المسؤولية على الأم في الحالة التي يكون الابن القاصر في عهدتها وهي بصدد تنفيذ مقرر الزيارة، ففي هذه الحالة يقع عليها عبئ التتبع والرقابة وتسأل عن تقصيرها في ذلك، وتتحمل تبعا المسؤولية عن الضرر الذي ألحقه القاصر بالغير.

المطلب الثاني: شروط تحقق مسؤولية الأبوين عن أفعال أبنائهم القاصرين الضارة والآثار الناجمة عن ذلك.

سوف نقسم تفاصيل هذا المطلب إلى فقرتين، نخصص الفقرة الأولى للحديث عن شروط تحقق مسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين، على أن نرجئ الحديث في الفقرة الثانية لمناقشة الآثار الناجمة من جراء تحقق المسؤولية بشروطها وإمكانية دفعها ودعوى التعويض عن الضرر الحاصل.

الفقرة الأول: الشروط الواجب تحققها لقيام مسؤولية الأبوين أو أحدهما عن أفعال أبنائهم القاصرين.

لقيام مسؤولية الأبوين أو أحدهما عن أفعال أبنائهم القاصرين المسببة للضرر للغير، وجب أن تتحقق جملة من الشروط وهي:

الشرط الأول: وجود طفل قاصر: ويكون الطفل قاصرا بمفهومه العام في المرحلة الفاصلة بين تاريخ الميلاد إلى حين بلوغ سن الرشد القانوني المحدد في المادة 209 من مدونة الأسرة بثمانية عشر سنة شمسية كاملة[18]. حيث إن رقابة الأبوين وإشرافهما على أبنائهم القاصرين تنتهي ببلوغهم سن الرشد[19]، باستثناء الحالة التي تعترضهم فيها عوارض كالجنون أو الإعاقة الذهنية…الخ، فهنا الاشراف والرقابة يستمران رغم بلوغ الأبناء القصر سن الرشد[20].

الشرط الثاني: أن يكون القاصر ساكنا رفقة والديه أو أحدهما: ويقصد بهذا الشرط أن يكون القاصر مقيما مع والديه إقامة رسمية، وهذا يعني أن الأبوان مثلا إذا أودعا ابنهما القاصر في دار الحضانة أو أرسلاه إلى مدينة بعيدة لمتابعة دراسته الأمر الذي اضطره إلى السكن بها، فإنهما لا يتحملان هذه المسؤولية في الأوقات التي يكون فيها القاصر خارجا عن سيطرتهما ومراقبتهما[21]واشرافهما، لذلك فالحال وهذا يمكنهما التنصل من أي مسؤولية تجاه الأضرار التي يتسبب بها هذا القاصر، وذلك بدفعها ركونا في ذلك للموجب المذكور قبله.

الشرط الثالث: أن يرتكب القاصر خطأ سبب ضررا للغير: لا تقوم مسؤولية الأبوين عن خطأ[22] ابنهما القاصر مباشرة بمجرد تحقق هذا الأخير، بل يتعين أن يلحق فعله هذا ضررا للغير[23]، استنادا في ذلك إلى القاعدة الفقهية “لا مسؤولية بدون ضرر” ويتخذ الضرر الواقع على الغير صور عديدة، فإما أن يكون ماديا أو معنويا، بسيطا أو فادحا، واقعا على فرد أو جماعة، وعلى المضرور أن يقدم الدليل على أن الضرر قد تسبب فيه هذا القاصر دون غيره، حتى يتسنى له إقامة دعوى المسؤولية للحصول على التعويض المناسب.

الشرط الرابع: وجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر: لا مناط للحديث عن أي مسؤولية إذا لم تتوفر شروط قيامها الثلاثة وهي: الخطأ والضرر والعلاقة السببية[24]، فهذه الأخيرة هي التي تربط بين الفعل المرتكب والضرر الحاصل، وعدما قيامها يجعل مسؤولية الشخص تنتفي، جاء في الفقرة الأولى من الفصل 78 من قانون الالتزامات والعقود ما يلي:” كل شخص مسؤول عن الضرر المعنوي أو المادي الذي أحدثه، لا بفعله فقط ولكن بخطإه أيضا، وذلك عندما يثبت أن هذا الخطأ هو السبب المباشر في ذلك الضرر.”

فركونا لكل هذا وذاك، يتعين أن تتحقق الشروط الآنفة الذكر أعلاه كلها، حتى تقوم المسؤولية وتنتج آثارها تجاه الأبوين أو أحدهما، ومن هذه الأخيرة ممارسة دعوى المسؤولية من قبل المضرور قصد الحصول على التعويض المناسب، مع إمكانية دفع الأبوين أو أحدهما لهذه المسؤولية إذا كان لذلك أساس.

الفقرة الثانية: الآثار الناجمة جراء تحقق مسؤولية الأبوين عن أبنائهم وإمكانية دفعها ودعوى التعويض عن الضرر.

إذا ما تحقق المسؤولية المدنية للأبوين أو لأحدهما عن فعل ابنهما القاصر المسبب للضرر بجميع شروطها، كان للغير المتضرر من هذا الفعل الحق في المطالبة بالتعويض الذي يكفي لإصلاح الضرر الحاصل، ويمكن تعريف التعويض حسب معجم القانون بأنه” مبالغ يلتزم بها المسؤول عن ضرر معين، ويقصد بها جبر الضرر[25].

 كما أنه وبمجرد ادعاء الغير للضرر، ونسبة سبب قيامه لخطأ أحدته القاصر، فقد أعطى المشرع المغربي لأبوي القاصر أو لأحدهما إمكانية دفع المسؤولية عنه، وهذه الأخيرة تقوم على خطأ مفترض بمقتضى قرينة قانونية تقبل النقض بالبينة المعاكسة، وهو ما نص عليه الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود[26]، كما يمكن للأبوين دفع مسؤوليتهما بنفي العلاقة السببية بين الخطأ المفترض في جانبهما، والعمل الضار الذي ارتكبه القاصر.

فإذا تحققت جميع شروط المسؤولية تجاه القاصر وأبويه أو أحدهما، وأثبت الغير  تضرره، ولم يستطع الأبوين أو أحدهما دفع المسؤولية عنه، كان للغير الحق في ممارسة دعوى المسؤولية التقصيرية أمام القضاء المدني للمطالبة بالتعويض، وترفع دعوى التعويض ضد الولي الشرعي للقاصر – سواء كان أبا أو أما – باعتباره صاحب الصفة في الادعاء كمدعى عليه، جاء في قرار لمحكمة النقض ما يلي:” إن توجيه الدعوى ضد الولي بصفته مسؤولا عن أفعال ابنه القاصر في إطار الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود يجعل صفته في الدعوى أصلية وليست إجرائية تمثيلية عن ابنه”[27].

والتعويض المحكوم به للمتضرر من قبل القاضي يجب أن يخضع لمعايير ومنها: جسامة الخطأ المرتكب، وحدة الضرر الحاصل، ومدى مساهمة المضرور نفسه من عدمه في وقوع هذا الأخير، ويجب أن يغطي التعويض حسب الفصل 98 من قانون الالتزامات والعقود الخسارة التي لحقت المدعي فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو سيضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب إضرارا به، وكذلك ما حرم منه من نفع في دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل.

خاتمة:

عطفا على كل ما تقدم ذكره آنفا، يمكن أن نخلص للعديد من الخلاصات أهمها:

  • تتأسس مسؤولية الأبوين عن أبنائهم القاصرين على مسألة الولاية التي منح الشرع الإسلامي والقانون الوضعي بعده لهما حق ممارستها عليهم، فرغم اختلاف التوجهات في تحديد الأساس القانوني أهو النيابة الشرعية التي تنبع منها الولاية أم واجب الرقابة والإشراف، إلا أن التوجه الأقرب للصواب هو الذي يعتبر أن أساس هذه المسؤولية تنبني على مسألة النيابة الشرعية التي تنبع منها الولاية التي يمارسها الأب والأم بعده على أبنائهم القاصرين.
  • يتحمل الأبوين كلاهما باعتماد تدرج الأحق بالولاية مسؤولية الأضرار التي يسببها الأبناء للغير في الحالة التي يكون فيها عقد الزواج قائما، أما في حالة انفصال الزوجين بأحد أسباب الفرقة فالأم باعتبارها الأحق أولا بالحضانة تتحمل المسؤولية عن أفعال الأبناء القاصرين كقاعدة عامة، لأن هناك استثناء يتحملها فيها الأب وهو ذاك الضرر الحاصل للغير عنما يكون القاصر في عهدته وهو بمناسبة تنفيذ مقرر الزيارة، ونفس المقتضيات أعلاه تصدق على الأب إذا أسندت له الحضانة بعد سقوطها عن الأم أو تنازلها عنها له، حيث يتحمل المسؤولية عن الأبناء كقاعدة، وتتحملها الأم كاستثناء في حالة ما يكون الابن في عهدتها وهي بصدد صلة الرحم به تنفيذا لمقرر الزيارة.
  • لقيام مسؤولية الأبوين عن الضرر الحاصل للغير بسبب أخطاء أبنائهم القاصرين لابد أن توفر جملة من الشروط المتعارف عليها وهي: أن يكون هناك ابن قاصر، أن يكون هذا الأخير ساكنا مع أبويه وفي عهدتهما، تم أن يرتكب خطأ سبب ضررا للغير، وأخيرا أن تكون هناك علاقة سببية بين الفعل المرتكب من القاصر والضرر الحاصل للغير.
  • بعد قيام شروط المسؤولية كاملة، يحق للغير المتضرر سلوك طريق المطالبة القضائية المدنية لاقتضاء التعويض الذي يكفي لإصلاح وجبر الأضرار اللاحقة به، ويعتمد القضاء في تقدير التعويض عدة معايير محددة قانونا، ويمكن للأبوين أو لأحدهما دفع المسؤولية عنه وذلك إذا أثبت أن فعل القاصر ليس هو السب المباشر في حدوث الضرر الذي لحق الغير، أو أثبت أن الضرر حاصل بفعل المضرور نفسه، أو له دخل في حدوثه، أو أن الضرر ناتج عن قوة قاهرة أو حادث فجائي.

انتهى بحمد لله وقوته


[1] – ينص الفصل 78 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي:” كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر.

وكل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر.”.

[2]قانون الالتزامات والعقود ظهير 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913) صيغة محينة بتاريخ 26 أغسطس 2019، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة النصوص القانونية، عدد 14، يناير 2009.

[3] – القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948.

[4] جاء في المادة 178 من القانون المدني المصري ما يلي:” كل من يجب عليه قانونا او تفاقا رقابة شخص في حاجة الى الرقابة، بسبب قصرة او بسبب حالته العقلية او الجسمية يكون ملزما بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بعمله غير المشروع، ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز، ويعتبر القاصر في حاجة الى الرقابة إذا لم يبلغ خمسة عشرة سنه او بلغها في كنف القائم على تربيته…”.

[5] – القانون المدني السوري رقم (43) لعام 1976.

[6] – ينص الفصل 288-1 من القانون المدني السوري على ما يلي:” لا يسأل أحد عن فعل غيره. ومع ذلك فللمحكمة بناء على طلب المضرور إذا رأت مبررا ان تلزم بأداء الضمان المحكوم به على من اوقع الضرر -: انه قام بواجب الرقابة، او ان الضرر كان لا بد واقعا ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية أو من وجبت عليه قانونا او اتفاقا رقابة شخص في حاجة الى الرقابة بسبب قصره او حالته العقلية او الجسمية الا إذا اثبت. انه قام بواجب الرقابة، أو ان الضرر كان لا بد واقعا ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية…”.

[7] مأمون الكزبري، نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي، الجزء الأول، مصادر الالتزامات، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1972، ص: 445.

[8] – أحمد الخمليشي، المسؤولية المدنية للأبوين عن أبنائهما القاصرين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1982، الطبعة الأولى، ص: 219 – 220.

[9] – مما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذا القول الذي يعتبر الأب وحده من يملك الولاية على أبنائه دون الأم، قول يصدق في ضل قانون الأحوال الشخصية الملغى، لأنه وفي ضل المدونة فقد أصبحت الأم إلى جانب الأب والقاضي ولية على أبنائها وذلك وفق شروط حددتها نفس المدونة.

[10] – مدونة الأسرة المغربية الصادرة بموجب الظهير الشريف رقم 1.04.22 بتاريخ 12 من ذي الحجة 1424 الموافق ل 3 أكتوبر 2004، والقاضي بتنفيذ القانون رقم 70/02 بمثابة مدونة الأسرة والمنشورة في الجريدة الرسمية عدد 5184 بتاريخ 14 ذي الحجة 1424 الموافق ل 5 فبراير 2004، الصفحة 418.

[11] – عبد العزيز توفيق، مدونة الأحوال الشخصية مع آخر التعديلات (ظهير 10/09/1993)، سلسلة النصوص التشريعية المغربية، دار الثقافة، طبعة 1993.

[12]– تنص المادة 54 من مدونة الأسرة على ما يلي:” – للأطفال على أبويهم الحقوق التالية:

1 – حماية حياتهم وصحتهم منذ الحمل إلى حين بلوغ سن الرشد؛

2 – العمل على تثبيت هويتهم والحفاظ عليها خاصة، بالنسبة للاسم والجنسية والتسجيل في الحالة المدنية؛

3 – النسب والحضانة والنفقة طبقا لأحكام الكتاب الثالث من هذه المدونة؛

4 – إرضاع الأم لأولادها عند الاستطاعة؛

5 – اتخاذ كل التدابير الممكنة للنمو الطبيعي للأطفال بالحفاظ على سلامتهم الجسدية والنفسية والعناية بصحتهم وقاية وعلاجا؛

6 – التوجيه الديني والتربية على السلوك القويم وقيم النبل المؤدية إلى الصدق في القول والعمل، واجتناب العنف المفضي إلى الإضرار الجسدي والمعنوي، والحرص على الوقاية من كل استغلال يضر بمصالح الطفل؛

7 – التعليم والتكوين الذي يؤهلهم للحياة العملية وللعضوية النافعة في المجتمع، وعلى الآباء أن يهيئوا لأولادهم قدر المستطاع الظروف الملائمة لمتابعة دراستهم حسب استعدادهم الفكري والبدني…”

[13] – تنص المادة 236 من مدونة الأسرة على ما يلي:” الأب هو الولي على أولاده بحكم الشرع، ما لم يجرد من ولايته بحكم قضائي، وللأم أن تقوم بالمصالح المستعجلة لأولادها في حالة حصول مانع للأب”.

[14] – قرار محكمة النقض عدد 185 الصادر بتاريخ 19/04/2011 في الملف الشرعي عدد 2009/1/2/296.

[15] – تنص المادة 238 من مدونة الأسرة على ما يلي:” يشترط لولاية الأم على أولادها:

1 – أن تكون راشدة؛ 2 – عدم وجود الأب بسبب وفاة أو غياب أو فقدان للأهلية، أو بغير ذلك…”.

[16] – تنص المادة 171 من مدونة الأسرة على ما يلي:” تخول الحضانة للأم، ثم للأب، ثم لأم الأم، فإن تعذر ذلك، فللمحكمة أن تقرر بناء على ما لديها من قرائن لصالح رعاية المحضون، إسناد الحضانة لأحد الأقارب الأكثر أهلية، مع جعل توفير سكن لائق للمحضون من واجبات النفقة.”.

[17] – قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالجديدة عدد 124 بتاريخ 21/02/2007 في الملف الشرعي عدد 482/2/1/2006، قرار منشور بمجلة الملف، العدد 11، سنة 2017، ص: 257

[18] – جاء في المادة 209 من مدونة الأسرة ما يلي:” سن الرشد القانوني 18 سنة شمسية كاملة.”.

[19] – جاء في المادة 210 من مدونة الأسرة ما يلي:” كل شخص بلغ سن الرشد ولم يثبت سبب من أسباب نقصان أهليته أو انعدامها يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه وتحمل التزاماته.”

[20]  جاء في المادة 211 من مدونة الأسرة ما يلي:” يخضع فاقدو الأهلية وناقصوها بحسب الأحوال لأحكام الولاية أو الوصاية أو التقديم بالشروط ووفقا للقواعد المقررة في هذه المدونة.”.

[21] عبد القادر العرعاري، النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المغربي، الجزء الأول، مصادر الالتزامات، الكتاب الثاني، المسؤولية التقصيرية عن الفعل الضار، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998، الطبعة الأولى، ص، 108 – 109.

[22] – عرف المشرع في قانون الالتزامات والعقود الخطأ في الفصل 78 بقوله:”…الخطأ هو ترك ما كان يجب فعله، أو فعل ما كان يجب الإمساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر.”.

[23] – جاء في الفقرة الأولى من الفصل 98 من قانون الالتزامات والعقود ما يلي:” الضرر في الجرائم وأشباه الجرائم، هو الخسارة التي لحقت المدعي فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو سيضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب إضرارا به، وكذلك ما حرم منه من نفع في دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل…”.

[24] – لمزيد من الايضاح بخصوص عنصر علاقة السببية، ينظر في ذلك:

– عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزام، الكتاب الثاني، المسؤولية التقصيرية، دار الأمان، الرباط، الطبعة الثالثة، 2011، ص: 111 وما يليها.

[25]  – معجم القانون، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، جمع اللغة العربية، جمهورية مصر العربية، 1999، ص: 74.

[26] – جاء في الفقرة الخامسة من الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود ما يلي:”…وتقوم المسؤولية المنصوص عنها إلا إذا أثبت الأب أو الأم أنهما لم يتمكنا من منع وقوع الفعل الذي أدى إليها…”.

[27]  – قرار محكمة النقض عدد 776 بتاريخ 13/03/2003 في الملف الشرعي عدد 3938/1/6/2002.

اقرأ أيضاً: